مقال ل محمد مرشد: الحكم والسلطة من منظور القرآن.

لمن يبحث عن واقع الحكم من المنظور القرآني يجد ان العديد من فقهاء القانون قد طرحوا سؤالاً مهماً في بناء النظم السياسية وهو من أين يأتي حق الحكم ومشروعية الحاكم بحيث يستطيع من خلالها إلزام الناس على الإلتزام بالقوانين والمقررات الحكومية وتقبل المحكومين لهذه المشروعية، فهل تأتي المشروعية من قوة الحاكم وغلبته أو من الوراثة أو من انتخاب الجماهير أو من تنصيب الله تعالى أو غير ذلك؟.


يوجد في هذا المجال نظريات متعددة اولها المشروعية الطبيعية وهي أحد أقدم الآراء في ملاك المشروعية وكان الفلاسفة اليونانيين في مقدمة القائلين بهذا الرأي وقد تناول ذلك واستعرضه أرسطو أيضاً، وتنص هذه الرؤية على أن في الطبيعة هناك عدة خلقت سادة أصلاً وأخرى خلقت عبيداً وإن الحكام يتمتعون بالمشروعية فطرياً وطبيعياً، يقول أرسطو في كتابه "السياسة" ( بعض الأحياء مقدر لهم ومنذ اللحظة الأولى لولادتهم أن يصبحوا إما أمراء وأسياداً أو مطيعين وعبيداً، فهذه السمة في الحياة نتيجة طبيعية لنظام الطبيعة العام )، القرآن الكريم يرد على المشروعية الوراثية بقول الله تعالى { إِنِّي جَاعِلُك لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين َ} صدق الله العظيم، فذرية إبراهيم لن تكون لهم وراثة الإمامة بعد أبيهم لأن الإمامة (عهد الله) لا تكون إلا منه تعالى يجعلها لبعض عباده الصالحين الكفؤين وغير ذلك يؤدي الى تقديم المفضول على الفاضل وهو ظلم للأمة، اما مشروعية الغلبة فقد أعتبر بعضهم أن القوة والغلبة هما منشأ السيادة فكل من يمتلك القوة ويغلب تكون حكومته مشروعة لكونه غالباً ولابد للناس من إتباعه، وقال بعض المفكرين من أهل السنة بأن الغلبة بالسيف ملاك المشروعية، وقد نقل القاضي أبو يعلى عن أحمد بن حنبل قوله : كل من غلب بالسيف على الأمة ونودي به «أميراً للمؤمنين» واعتبر خليفة لا يجوز لأحد من المؤمنين أن يتنصل عن إمامته سواء كان حسن السيرة أو سيئها فهو مسؤول وأمير المؤمنين، القرآن الكريم يرد على نظرية مشروعية الغلبة بأن الحكم بالقوة والغلبة من أبرز مصاديق الظلم كما في قوله تعالى { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين َ} وقوله ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ) وقوله ( وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍِ ) صدق الله العلي العظيم، نظرية المشروعية الجماهيرية ترى بأن مشروعية ممارسات السلطة تنشأ من قبول الناس واختيارهم وأن العقود والمواثيق التي يتم التوقيع عليها بموافقة الطرفين هي وحدها القادرة على تشكيل أساس القوة المشروعة والحكومة الحقه، في رد نظرية المشروعية الجماهيرية { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّه َِ} أي حصر الحكم بالله تعالى بينما الأكثرية في النظم الديمقراطية يتبعون الظن وليس الواقع كما في قوله تعالى : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } صدق عز من قائل، اما المشروعية الإلهية فقد حظيت هذه النظرية على مرّ التاريخ بأنصار كثيرين بمعنى أن الكثير من الحكام كانوا ينسبون بنحو ما مشروعية سلطتهم إلى الله سبحانه وبالتالي تكون إطاعة أمر الحاكم إطاعة لأمر الله ومخالفته مخالفة لله تعالى، وقد عرضت تفاسير مختلفة عن منشأ هذه المشروعية وأن الوجه الغالب في تفسيرها هو أن تكون قوانين الحكومة من قبل الله سبحانه بمعنى صلاحيات الحاكم من قبل الله أو الوحي والإلهام الرباني، ومن بين ادلة القرآن الكريم على المشروعية الالهية قوله تعالى { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } وقوله { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وقوله ايضاً { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }طبقاً لعقيدتنا وعلى أساس نظام الإسلام التوحيدي فإن المنشأ الوحيد للمشروعية وحقانية الحكومة هو الله تعالى فقط، وتستلزم الربوبية التشريعية والتوحيد في التشريع المنبثقة من الربوبية والتوحيد في التكوين أن يكون جميع شؤون الحكومة منتسباً ومستنداً إلى الإذن والإرادة الإلهية.

مقالات الكاتب