كيف نستفيد من الماضي؟


لابد من ثورة تعيد تصحيح مسار الفكر،لأن اصلاح العقل،وتصحيح الفكر،وتشخيص الواقع يسبق اصلاح النظم،فالشعب الذي يخوض معركة اصلاح النظم بوعي مغيب،وبمفاهيم خاطئة،وأدوات قديمة لن يصنع تجديدًا،فلن تستطيع أن تصنع تحديدًا بأدوات قديمة.

معارك الشتم والتخوين،والتخندق المناطقي أو المذهبي هي هروب إلى الأمام،تعبر عن عجزنا في مواجهة الواقع، لذا لن يفضي بنا الهروب إلا إلى السقوط في براثن الدمار والخراب،ولنا في الماضي عضة وعبرة،فلا يُعيد تجريب المجرب إلا العقل المخرب.

حين نكتب عن الماضي ليس لغرض استجرار هذا الماضي وإعادته،ولكن لأخذ الدروس والعبر منه،فليس الغرض من انتقاد حقبة زمنية أونظام سابق التشهير بشخوصه ورموزه كأشخاص،لأن أغلبهم قد رحلوا عن دنيانا،وأفضوا إلى ربهم .

انتقادنا للأخطاء السابقة التي ورَّثت الصراع اليوم لايعني أننا ننتقد شخص بعينه،أو منطقة بحد ذاتها،لأن النظام السابق كان منظومة سياسية متكاملة،حكمت الجنوب ردحًا من الزمن،هذه المنظومة لم تكن تنتمي لمنطقة محددة،ولا لقبيلة معينة،كانت توليفة من كل المحافظات الجنوبية،جمعتها أهداف وطنية عامة زمن المغرم،وفرقتها غايات مناطقية خاصة عند المغنم،وهذا التحول انحرف بالمسار السياسي في الجنوب من وطني عام إلى مناطقي خاص،ورَّث كل النعرات والنزعات العصبية التي نعيشها اليوم،التي يحاول البعض أن يتكأ عليها،في محاولة منه لتوظيفها لحساب مشروعة السياسي.

ليس الجنوب وحده الذي عصفت به دورات الصراع الدموي،فكل دول المنطقة العربية ودول العالم الثالث لاتزال تعاني نفس المعضلة،ولنفس الأسباب،وهي الهيمنة والاستفراد بالحكم،والسيطرة على الثروة.


أن معركة جيلنا اليوم يجب أن تكون وطنية ديمقراطية متسامحة متعالية على جراح الماضي،متطلعة لوطن يسوده العدل والمساواة،لينعم شعبنا بالأمن والسلام.


فهناك شعوب مرت بتجارب أشد قساوة ودموية مما ممرنا به،لكنها استطاعت أن تخرج من أتون ماضيها المظلم،بعد أن قطعت صلتها بالأسباب الموصلة إليه.

وسأضرب لك مثلًا بدولة من دول العالم الثالث،ولن أتطرق لتجارب العالم المتقدم كأوروبا واليابان، وكيف خرجتا من تحت أنقاض حربين عالميتين؟قتلت مائة مليون إنسانا،ولكن سأضرب لك مثلًا بدولة وضعها الاقتصادية والاجتماعية قريبًا منا،تعيش في محيط أكثر تخلفًا من محيطنا وهي رواندا .

نشبت في هذا البلد حربًا أهلية على أساس عرقي بين قبيلتي الهوتو والتوتسي،هاتان القبيلتان تشكلان غالبية الشعب الرواندي .

أرتكبت أطراف الصراع في رواندا أبشع الجرائم،من إبادة عرقية،ونهب للممتلكات،وأغتصاب النساء،وإخفاء قسري،واعتقالات،حتى أن أحد الباحثين الغربيين الذين كتبوا عن هذه الحرب عبر عنها بكلمتين (إنه الجنون)

في الأخير أيقن طرفا الصراع أنهما جميعًا يمضيان إلى الموت،فأتفقا على إنهاء الحرب بينهما،والتحول من المسار العسكري إلى المسار السياسي،واستبدال خيار العنف بخيار السلم،وخيار الإقصاء بخيار الشراكة،وخيار الفوضى بخيار النظام و القانون،وقرر الطرفان في لحظة واحدة الانتقال بالدولة من طور البدائية القبلية إلى طور الدولة المدنية؛ فكان لرواندا ما أرادت .

 فصنعوا من مخلفات أسلحة الحرب تماثيلًا تعبر عن المحبة والسلام،ووضعوها في الحدائق العامة،لتأخذ منها الأجيال الحكمة،والعضة،والعبرة،وتستمد منها قيم الحب والسلام ومعاني الوطن.

لم يقل الروانديون لحكومتهم ابعدوا هذه التماثيل التي تنكأ جراحنا،وتعود بالذاكرة الجمعية للمجتمع إلى الخلف،لأن الجميع آمن إلى درجة اليقين إن هذا أصبح ماضيًا،اتفق الجميع على تجاوزه،وذلك لأنهم قطعوا كل الأسباب الموصلة إليه .


                 سعيد النخعي

          عدن ٢٥/يونيو/٢٠١٩م

مقالات الكاتب