حيدرة محمد يكتب: حيد ضيقة

حيدرة محمد

الساعة السابعة صباحا , ألوجهه "وادي ضيقة" أو ليقه بلهجة الكوازم , ولا بد من ضيقه وأن شق السفر , يقع وادي ضيقه في الجهة الشرقية من "بلاد الكازمي" الواقعة في مديرية "المحفد" أو كما يطلق على قبائل باكازم هناك "باكازم الجبل" , وتأتي مديرية "احور" كثاني مديرية يمتد فيها التواجد الكازمي ويطلق على قبائلها "باكازم الساحل" , بلاد الكازمي أو أرض الكوازم , باكازم الدهماء , العرب الأقحاح نسبا وخلقا , المتطرفون لعاداتهم وتقاليدهم , لا تجد كازمي يدير ظهره لك أن جئته ملهوفا طالبا نجدته , يستحيل أن تكون مارآ في بلاد الكازمي ولايقوموا بواجب الضيافة والذي عادة ما يكون في الديار الكازمية واجبا مفتوحا وأن مكثت عندهم دهرا , أهل الحمية والمكارم والآباء والأنفة , نمار الوغى , الطواهش الضواري , سدنة عهود وشروع القبيلة كابرا عن كابر , نسبهم واحد وعراهم ووشائجهم واحده , الكازمي قبيلي وأن لم يتبقى من القبيلة والقبائل إلا أسمائها والقابها والكثير من الشعر وبعض القصائد الرديئة المضمحلة , لأجل ذلك وأكثر يستميت "الكوازم" في الدفاع عن وجودهم وعن عاداتهم وتقاليدهم وطابع حياتهم صنوان عزتهم وكرامتهم ودون ذلك عندهم هو الموت , أو كما يقولون عندما يتأهبون لقتال النفس ماتدوم .. بدأ الضباب كالثلج المتساقط على زجاج السيارة في يوم شتوي قارص البروده ونحن نوشك أن نصل إلى منطقه يقولون لها "لحمر" وهي منطقة استراحة ومطاعم شعبيه للمسافرين , نزلنا من السياره لتناول الفطور , لم نعتاد أن يكون الفطور باكرا لحما خالصا مصحوبا بمرق اللحم الدسم والخبز , فطرنا وأصر الكوازم "أهل بسامه آل سالم باكازم" على أن لاندفع شيء , قلنا لهم إذا دعونا نتشارك رفضوا وبشده مصحوبه بالغضب , أحدهم أشار الى سلاحه مازحا في اشاره منه للمنع القبلي عندهم وهو سالف قديم يعني أن على الضيف أن ينزل عند رغبة مضيفه كي لا يشعروا أنهم قصروا في حق ضيافتهم له .. وكان لهم ماارادوا , ركبنا ونطلقنا إلى أن وصلنا إلى احياء يقال لها الروضة والسواد وهي مناطق تسكنها قبيلة"الجعادنه" آل فضل , كدنا نصل بوابة باكازم الشرقيه وسورها الحصين بلدة "المعجله" أرض "العنبور آل سالم باكازم" , المعجله موطن آل عنبور باكازم وسدها المنيع إلا أن إطار السياره كان له معنا رأيا آخر ,اضطررنا للنزول لإصلاح إطار السياره , كانت فرصه مواتيه لتأمل المكان وتفحص ارجائه ونواحيه , أمامنا جبال الكور الشاهقة ونحن نقف على منحدر مرتفع يطل على "وادي المعجله" الفسيح الشاسع ' منظر الهوة العميقة للوادي من الاعلى لا ينسئ , دقائق قليله وصعدنا إلى السياره , على مشارف المعجله ينبهنا أصحابنا الكوازم بأن علينا أن نعتذر من "آل عنبور" إذا اوقفونا للنزول وألحوا على أن يقوموا بواجب الضيافة خاصه وأنهم وإياهم ابناء عمومه ويتوقعون حدوث ذلك, المعجله بلده جميله برغم بساطتها , بعض البيوت مازالت سقوفها من الأشجار , يمارس البعض من أهلها الاشتغال بتربية "النحل" والبعض الآخر بالرعي , مضاربهم تحوي آلاف رؤوس الأغنام , بعض أراضيها خصبة تصلح للزراعة وبعضها خرب , اوقفنا آل عنبور وتقاطروا باتجاهنا من كل ناح , ترجلنا من السيارة للسلام عليهم ومصافحتهم , وجهوا دعوتهم لنا بالنزول ضيوفا عليهم , اعتذرنا ولم يقبلوا , كررنا اعتذارنا مرارا وكأننا نكلم صما , رفضوا كل اعتذاراتنا, تدخل قومنا من الكوازم ولكن دون فائده , كاد القوم أن يقتتلوا بسببنا , وبعد أخذ ورد اقتنع آل عنبور واعذرونا في الذهاب مع ابناء عموتهم "آل بسامه" إلى وادي ضيقه , لن انسئ ذلك الشيخ "سيد قومه من آل عنبور" وهو يلجب بصوته الجهوري مرحبا بنا :عليكم بالله ارحبوا .. حيا بكم يالله حيهم .. أملا أن نقبل دعوته , أي قوم هؤلاء الذين تشعر أن ريح صدقهم يسبقهم وجياد شهامتهم وكرمهم يفوح بارودا , من أجل أن يقوموا بواجب ضيافتنا ومن أجل أن لايشعروا بالعار ويقال أن ضيوفا مروا من مضاربهم ولم يكرموهم كادوا أن يشعلوا فتيل معركة مع ابناء عمومتهم , ودعنا آل عنبور وشيخهم الوقور , مررنا بجسر المعجله ونحن نسير على الجسر واعيننا ترقب المكان الذي تقع فيه عيون "الحامية" المشهورة في المعجله والتي يتقاطر إليها الناس من مختلف المناطق المجاورة للتشافي من بعض أنواع الأمراض الجلدية وغيرها من الأمراض , الحامية عيون مائية طبيعيه تضخ ماءآ ساخنا وهي منحه إلهية مازالت إلى يومنا ومقصدا للكثير من مرتاديها لغرض العلاج , تجاوزنا المعجله إلى أن اقبلنا على مضارب بعيده نراها من بعيد , يسمونها "الساكن" وهي احياء صغيره غالبا ما يكون عدد ساكنيها بسيطا " ساكن "آل حيدرة باكازم" ويقع إلى الغرب من بلدة المعجله , لفت انتباهي وجود الكثير من الجمال العربيه الأصيلة والتي يملكها "آل حيدرة" , جمال حمراء كثيفة الصوف وترعى في شعب يقع بقرب الساكن ,كأنهن حمر النعم أبل آل حيدرة باكازم , إلى الشرق من الخط العام تقع مضارب صغيره تتوزع على شعاب الجبال المتباعدة عن بعضها البعض , أنهم تجار العسل أو كما يسميهم الكوازم "المناوبة" , أمامنا أحد أولئك يخيم هو واعواد العسل في شعب جبلي منبسط مليئ بالأشجار والإعشاب ذات الرحيق المفضل للنحل , رحب بنا الرجل وسألناه عن الرعي وعن النحل أو كما يسموه باللهجة الدارجه "النوب" وشرح لنا وبكل ترحاب الكثير من الأمور عن العسل والنوب وطبيعة مهنته وهو يهم باجترار سكينه الذي يضعه بجانب خنجره أو كما تسمى "ألجنبيه" كي يخرج لنا من أحد أعواد شجر "العلب" المفضل لتربية النحل قرص من العسل هدية منه لنا , حاولنا أن نثنيه لكنه أصر على ذلك , كرم كازمي آخر لم نستطع دفعه لصدق أصحابه وكرمهم الذي لم نرى مثيله قط , مذاق ذلك العسل في أرض باكازم وبعد وجبة إفطار دسمة يجعلك تستغني عن السيارة وتمشي غير ابه لأي شيء أمامك , مضينا ونحن نلوح باكفنا الممتنه لتاجر العسل الكازمي وهو يلوح لنا بوداعه , أناس يرحبون بك بمجرد أن تقصدهم عابرا ليس أكثر , كنا نتساءل كيف سيكون الحال عند قبيلة "آل شاخ أهل بسيول آل سالم باكازم" أهل وادي ضيقه وسكانه الأزليون , في الطريق رن تلفون أحدهم , صوت المتحدث إليه يحدثه من "المحفد" ويساله عنا نحن الضيوف , مفاد المكالمة أن المتصل خارجا لتوه من المحفد وسينتظرنا في منطقه قوم من باكازم على تخوم وادي ضيقه يدعون "أهل بن لكسر" , أخبرنا أصحابنا الكوازم أن القبيلة كلها في انتظارنا وعلى رأسهم الشيخ "أحمد علي بن جرادة" والجميع على أهبة الاستعداد لاستقبالتا , مازلنا في الطريق ولم نصل بعد إلى وادي ضيقه العصي , بدت لنا مضارب متقاربه من بعضها البعض ,حي يدعى "المناهبه" وحي آخر يقال له "المشنيه" وجميعهم ينتمون لقبيلة "آل سالم باكازم" , مشهورون بتجارة السلاح وتربية الأغنام وقطعان الإبل , تجاوزنا أرض المنهبي والمشني وفي الطريق برزت لنا في اتجاه الشمال حصون شاهقة على رؤوس جبال بعيده .. سألنا القوم لمن تكون تلك الحصون .. , اخبرونا أنها بلدة سناج أرض "آل باجراد باكازم" والحصون تلك تعود لهم , بعدها تبسم القوم وهم يطلبوا منا أن ننظر إلى الشرق على يمين الخط , أنها ضيقه العصيه بلاد الصقر والنمر العربي الأصيل , ضيقه المنيفه بجبالها النائفات الشوامخ , ضيقه الوادي الذي تتغير طرقه ومسالكه بحسب تغير مناخ الاجواء والطبيعة , هرولنا إلى الوادي الشاسع الامتداد , لا تكاد تعرف إلى أين تمضي وإلى أين تتجه , توغلنا في الوادي إلى أن اجتمعنا بالمنتظرين لقدومنا , التحم موكب سياراتنا المكون من أربعة شاصات وهي السيارات المفضلة عند قبائل باكازم لقوتها وقدرتها على اجتياز الطبيعة الوعرة لبلادهم , يتسابقون بالسيارات كالفرسان , أحدهم يضع كحل النساء في عينيه , يقود السيارة بيد وباليد الأخرى يشهر سلاحه الشخصي وهو يهم باصطياد ضبيه صغيره في أحد شعاب الجبل المحاذي لطريقنا أو بالأصح لحلبة سباق شباب "آل سالم" وهم يتسابقون على من يكون أسرع وصولا إلى مضارب القبيله , أخطأ الشاب السالمي "ذو الكحل" الضبيه ولكنه تبسم لنا واعدا ايانا في أن يصيب هدفه مره أخرى شرط أن يكون عشاءنا عنده عندما يصطادها .. ضنناه يمزح .. , جبل ضيقه أو "حيد ضيقه" الأشم هو الاسم المختصر لمئات القمم الشماء للجبال في وادي ضيقه الكبير , لا تكاد تغادر قمه شاهقة من حيود ضيقه الشامخة حتى تقابلك قمه أخرى ,  لم نتصور أننا سنرى الضبئ العربية رؤيا العين وعلى مقربه منا وبهذا القرب , الساعة التاسعة صباحا وصلنا "قلب ضيقه" مضارب "آل بسيول آل شاخ سالم باكازم" , سأل أحدهم أحد أفراد القبيلة : هل هذه الاراضي كلها أرضكم .. تبسم وقال له : ومثلها لم تصل إليها بعد ..صدى الأعيرة النارية من خشوم بنادق "آل بسيول" واخوتهم المرابعه "آل شاخ" لم تهدأ لخمس دقائق متواصلة ترحيبا بقدومنا ,اصطفوا لمصافحتنا على الطريقه الكازميه , تنهال علينا كلمات الترحيب من كل الأفواه صغيرها وكبيرها يرحب بنا , حفاوة ليس بعدها حفاوة , قدموا لنا الماء المجلوب في الغراب من جلود الأغنام أو كما ينطقون "أرب" ,فناجين الشاي والقهوة المره في حالة طيران دائم لا تكاد تهدأ وما أن تفرق من شرب الفنجان الأول حتى يباغتك الفنجان الثاني ولزاما عليك أن تشربه , انت في قلب باكازم لا مجال إذا لكلمه لا ومن الأفضل أن تشطبها من قاموسك , عربا اقحاحا وبدوآ بكل ماتعنيه كلمه بدوي عربي قح , القوم بيوتهم من الخيام البدويه القديمه والمصنوعه من صوف الجمال , على ربوه طينيه صلبه تطل على الوادي أو كما يسمونها "السيل" ,أخرجوا خمسة رؤوس من الأغنام ونبرا بعض شباب القبيلة لذبحها , قالوا لنا مازحين أردنا أن نذبحها قبل مجيئكم ولكن خشينا أن توقعوا بيد أخوتنا آل عنبور ..قلنا لهم وقد كدنا نقع .. ضحكنا جميعا , مر الوقت علينا ونحن نتبادل أطراف الحديث مع شيوخ القبيلة , شدنا منظر اللحم بعد انتهائهم من الذبح ,عمدوا الى وضعه على إعجاز النخل أو "السعف" , النساء تحرق حجارا ملساء يسمونها "الصفاه" , وضعوا بعض اللحم على احجار الصفاه وبعضه انزلوه القدور لنضجه ,كانت بعض النساء الأخريات يقمن بطهو الخبز على احجار الصفاه المحترقه , أنه خبز الذرة الشهي والذي يسمونه "السكوع" , عند الظهر قدموا الطعام , أكلنا بكل نهم لم نعهده للذه مذاق اللحم المطبوخ على الحجاره مع خبز السكوع والمرق , لثلاثة ايام متتابعة ونحن في كل يوم ضيوفا على أحدهم , كرما لا يضاهيه كرم , قبل المساء يحضرون لك مايسمونها "اللقمه" وهي عباره عن معصوب ذره بالعسل والسمن البلدي وأحيانا يضيفوا له زيت "السمسم"في صحاف كبيره وهذا ليس العشاء طبعا فالعشاء لايكون إلا سمينا أي لحم الضأن والماعز وخبز الذرة وكالعادة على حجار الصفاه الناعمة , إذا جن الليل تستمع بتأمل السماء الملئ بالنجوم ,ليالي مقمره وأنت بين القوم تشدك أحاديثهم بلكنتهم الكازميه المميزه وهم كما يقولون "يتعللون" أي يتحدثون , جبال ضيقه ليس لها نهايه وبعض وديانها إلى اليوم ولشدة ووعورة التضاريس لا يمكنك التوغل فيها , في اليوم التالي توجهنا إلى أحد الوديان المشهورة بما يعرف ب "المخانق الحربيه" في وادي ضيقه , وهي طرق سريه واستراتيجه تصل بك إلى حدود شبوة أو كما يسميها  العوالق الأوائل أرض "العقرب", لا أحد يعرف مسالك تلك المخانق في باكازم ماعدى بعض من اشتهروا بمعرفتها وهم قله, لشروق الشمس على سفح حيد ضيقه وقع مختلف عن سواه من الأمكنة في بلاد الكازمي , وذلك لأن الجبال هناك تحجب اشعه الشمس عن الوادي إلى أصيل الظهر لدرجه أنك تخال الوقت عصرا والوقت لايزال صباحا ,أشجار النخيل في بعض زوايا السيل الربوة الطينية المرتفعة التي نقيم عليها وأشجار السيسبان كذلك , سحر الطبيعة يطغى على المكان , مرت ايام ضيافتنا الثلاثة سريعا , عشية ليله مغادرتنا وادي ضيقه كانت ليله صاخبة بالجدال ونحن نحاول إقناع القوم بالسماح لنا بالرحيل , ولكنهم رفضوا وقالوا لنا ظلوا عندنا لما الاستعجال , شرحنا لهم أن هناك مشاغل تشغلنا وارتباطات تستوجب مغادرتنا , وباعجوبه لم نكن واثقين بحدوثها اقتنعوا وسمحوا لنا بالرحيل , في الصباح جهزوا لنا هدية وداعنا وكانت عبارة عن عشره رؤوس من الأغنام وجالونين من العسل وبعض مصنوعات عزف النخل واصروا على أن نقبلها وكان لهم ذلك , ودعناهم وتلاشى وادي ظيقه عن انضارنا كلما ابتعدنا عنه , وصلنا منازلنا ونحن مسكونون بوادي ضيقه وحيدها الاشم وبكرم الكوازم الطائي , بعدها بأيام يرن هاتفي وإذا به فتئ ال بسيول "ذوالكحل" يخبرني بأنه تمكن من اصطياد الضبيه في وادي ضيقه ولابد أن يبر بوعده وهو يعزمني للعشاء .. اعتذرت له بكل لطف وامتنان وقلت له : أنتم فرسان حقيقيون هنيئا لكم فروسيتكم التي لا تتنازلون عنها لأنكم اذا وعدتم اوفيتم يا أنبل ماانجبت حيود ضيقه ووديانها من فرسان .

مقالات الكاتب

لروح عوض واكد

عامان مرأ على رحيلك البعيد القريب ، راوحه عنأ ولم نبرح أمكنتنا ، أنت ترجلة من على صهوة جوادك المثقل...

الذبيحة

أعود ولا أعود ، أجود ولا أجود ، أذود أو لا أذود ، أسود أو لا أسود ، الوعود والمسافات والحدود ، الطرق...

مسقط رأس الرئيس

أبين ، الوضيع ، تقاطع بلدة "الخديرة" أو امخديرة بلهجة أهل دثينة ، الخديرة البلدة المتاخمة لمديرية "ا...