ذات عدن .. ذات حضرموت

  أهداني الباحث الأستاذ طاهر ناصر المشطي ،  نسخة من بحثه الموسوم :  "دور الحضارم في صناعة السفن الخشبية بميناء عدن والعمل عليها " . من خلال هذا البحث يغطي الباحث دور الحضارم في هذه المهنة من فترة تمتد من منتصف القرن التاسع عشر حتى الربع الاخير من القرن العشرين . البحث شارك به المشطي في المؤتمر العلمي الثاني ( دور الحضارم في عدن عبر التاريخ ) المنعقد في مدينة عدن 17 - 18 ابريل 2019 م .
      وانا أقرأ البحث ، كنت احاول ضبط إيقاع ذاكرتي على مشاهد تفضي بي إلى تاريخ كانت فيه البحار تمتلئ بالسفن الحضرمية ، وقد امتلأت بالتمر والصمغ والبن واللبان والأخشاب والتوابل والجلود والأرز والبشر ..
   ذات بحر .. ذات زمن حملت ولاشك واحدة من هذه السفن الخشبية جدي الحضرمي سالم سعيد باشطح الذي ينتمي إلى غيل باوزير ، من ميناء الشحر او المكلا إلى مهجره في القرن الافريقي ، ورست به على شاطيء لازوردي في قرية ساحلية اسمها حيس ، ليجد نفسه بين فخذين من ابنوس ..
  وذات بحر .. ذات زمن حملت نفس السفينة او واحدة تشبهها ، ابي من ميناء القرن ، او ميناء عدن ورست به في نفس الشاطيء والحيس ..
  لعل هذه السفن الخشبية الشراعية ، وساباقاتها ، هي التي منحت الحضارم هجراتهم إلى الهند والسند .. وإلى شرق افريقيا وشرقي آسيا . وإلى كل الأمكنة ، وحيث استطاعت سفنهم الوصول وضعوا أقدامهم وبصمتهم التجارية .....
   ولحضرموت حضور كبير في التاريخ والحضارة والثقافة الإنسانية . وفي نشر الإسلام ، وفي النشاط التجاري ، وحيث وضع الحضارم اقدامهم بذروا نسلهم الحضرمي الجديد ، واندمجوا في تلك المجتمعات واصبحوا جزء من نسيجها الاجتماعي ، ووصل بعضهم إلى الرئاسة والحكومة في غير بلد في اسيا وافريقيا . 
  وذات بحر .. ذات زمن تلا ابي فاتحته الحضرمية مع جدي ذاك ، ليتزوج من امي فجئت إلى الدنيا طفلا بكاءا.. عاد بي ابي على واحدة من تلك السفن ، إلى عدن ، ثم إلى حضرموت ، لكن جدي مات هناك ولم يعد ابدا ...
  لم اكن اتوقع ان بحث أ . طاهر المشطي من حيث لم يقصد ، سيثير في نفسي بحرا من الذكريات ، وعاصفة من الشجون ، فانا بطبيعتي ضعيف امام كل مايتعلق بالبحر .. فقد ولدت في قرية ساحلية لكني لم ارها بعد ذلك قط ... وعندما عدت او عاد بي ابي كان ذلك بين ازرقين . . البحر والسماء .. وايضا على واحدة من تلك السفن الشراعية ، من تلك التي صنعها ولاشك حسب بحث المشطي حضرمي من الديس الشرقية ،  وكان ناخوذتها من الديس ومعظم ان لم يكن كل بحارتها .. عندما وصلت حضرموتي ، كان وصولي إلى ميناء القرن اولا .. اما الديس الشرقية بلدي حين رأيتها فلم ارها إلاجزيرة وسط بحر من نخيل ..
   جزء كبير من جغرافية وتاريخ الديس له علاقة بالبحر والبحارة .. ولأهمية البحر في سفرها كان لها ثلاثة موانئ ، خلفة ، والقرن ، وشرمة .. فلا عجب الا يختص شعب يمتلك كل هذه الموانىء البحرية التي تطل على بحر العرب والمحيط الهندي بصناعة السفن  ، والا يعشق البحر والسفر ....
   يثبت الباحث طاهر المشطي ، قاطعا كل شك من خلال بحثه المشار إليه ، بان صناعة السفن الخشبية في ميناء عدن ، وعلى طول الساحل الجنوبي كانت صناعة حضرمية بالمطلق منذ قرون ، و ديسية بامتياز من منتصف القرن التاسع عشر إلى الربع الاخير من القرن العشرين عندما غرقت ( سنبوق السعيد )  آخر سفينة من الاسطول التجاري الحضرمي التي ظلت تقاوم البقاء،قبالة ساحل صيرة بعد ان تعمدت بارجة روسية الاصطدام به . ومن حسن الحظ ان  ناخوذتها الاخير عبد الله عبد الرحيم حوري وطاقم السفينة جميعهم نجوا من الغرق  .

   عندما وصلت عدن اول مرة ، في نهاية خمسينيات القرن العشرين الماضي سكنت مع ابي في (  بخار بحاح ) في معلا دكة .. وكانت متعتي ان اصعد إلى سطح البخار   واتفرج على تلك السفن الخشبية الراسية ،  في الميناء بالعشرات والمئات ، وقد اسدلت اشرعتها . يذكر الباحث طاهر المشطي في بحثه القيم المشار إليه ان تلك السفن التي كنت اتفرج عليها من فوق سطح بخار اجدادي من آل بحاح ، صنعت في معلا دكة بالذات على يد الحضارم من  الديسشرقاويين ، ( بتعبير ناصر بحاح ) ويتحدث عن دورهم ذاك ، وعن دور آل بحاح في خدمة الوافدين إلى عدن ،  خاصة من ابناء الديس الشرقية ، وعن  نفوذهم في الميناء ، وامتلاكهم لعدد من الزعائم . ويحدد دورهم ذاك في توفير السكن المجاني ، وفرص العمل ، وتسهيل دخولهم إلى عدن بدون جوازات سفر ، او اوراق مرور. . " يكفي ان يقول عندما يصل عدن : انا من حضرموت ونازل عند بحاح "  والتوسط لهم لاعفائهم من رسوم الدخول نظرا لما يتمتع به صالح عوض بحاح من علاقات مع التجار والوجهاء بمدينة عدن . وبعض بناة تلك السفن في معلا دكة اقاموا في بخار بحاح لامد طويل ابا عن جد كما يورد الباحث .
  يسعدني انني انتسب إلى آل بحاح هؤلاء ، وإلى الديس الشرقية هذه ، وانني حضرمي ابا عن جد ..وخارج البحث القى طاهرالمشطي ،  مزيدا من الضوء على هذه العائلة في حديث بيننا بالواتس ..جاء فيه : 
   " وآل بحاح لهم فضل كبير على الديس واهلها ..  كان يطلق علي بيتهم القديم (دار الرحمة) حيث كانوا يقومون طوال ايام السنة بتقديم الطعام للفقراء والمساكين حيث كانت سقيفة الدار هو المكان الذي يأتي إليه هؤلاء المساكين ليجدوا طعامهم بانتظارهم . وكانت هذه الأسرة المباركة في الخمسينات والستينات تتكون من ثلاثة اقطاب وهم: 
الجد سالم عوض بحاح يدير العمل بالبلاد ، والجد صالح عوض بحاح يدير العمل في  عدن ، والجد حاج بحاح كان متفرغا للجانب الدعوي والخيري وكان إمام وخطيب جامع الديس ، كما له بصمات في كثير من المشاريع الخيرية ... رحمهم الله رحمة الأبرار وجزاهم عنا خير الجزاء" .
   هناك فضائل كثيرة لآل بحاح على أبناء الديس الشرقية لابد من ذكر ولو بعضها منها ، والكلام لايزال للاستاذ طاهر ناصر المشطي : 
      1. تثبيت تسمية (الديس الشرقية )، حيث كان يطلق عليها (ديس الحامي)، وكان بخار بحاح بمثابة سفارة الديس في عدن وكانت الرسائل تجمع في البخار لترسل إلى الديس . وكان الشيخ صالح عوض بحاح يختم جميع الرسائل بختم يحمل اسم (الديس الشرقية) كما استورد عطرا من جيبوتي واسماه (الديس الشرقية) بل وتمت مخاطبة السلطان القعيطي مطالبين بتغيير الإسم رسمياً من ديس الحامي الى الديس الشرقية ، فتم لهم ذلك .
      2. إدخال التعليم إلى البلاد وتشجيع الطلاب على التحصيل العلمي : حيث اشترى الشيخ حاج سعيد بحاح مبنى (مدرسة الإصلاح) من آل سلمان من جيبه الخاص وأوقفها لصالح التعليم في البلاد وذلك في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، وهي أول مدرسة أهلية ثم نظامية في الديس الشرقية . 
     3. بالإضافة إلى الأدوار الاجتماعية في رعاية (نادي الإخاء والمعاونة) والجمعيات الخيرية منها: جمعية الطالب الحضرمي لأبناء الديس، وجمعية أبناء الديس الشرقية في عدن .
   4 . وفي الجانب السياسي فالشيخ سعيد عبد الله بحاح له دور كبير في نشر الفكر الإصلاحي . وقاد هذا الشيخ أول مظاهرة شهدتها المدينة تأييدا للرئيس الراحل - جمال عبد الناصر - في الخمسينات من القرن العشرين الماضي .

           وللحديث بقية

مقالات الكاتب