ذات عدن .... ذات حضرموت (2)

مامن مكان آخر ، كان يصلح لبناء   وصناعة السفن الخشبية وازدهارها غير عدن .. مامن ميناء اومدينة كان منافسا لها ، لا من حيث الشهرة ، ولا من حيث الموقع الاستراتيجي ، ولامن حيث المزايا الطبيعية ، والقانونية . يومها لم تكن ثمة حياة في دبي وجدة والكويت والدوحة مثلما اليوم . لقد تحولت منذ العام 1850 إلى ميناء وسوق حرة ، مازاد من اهميتها .. وهذامن اهم واول الأسباب التي يوردها الباحث طاهر ناصر المشطي ، مسؤول قسم التوثيق بجمعية التراث والآثار في مديرية الديس الشرقية - حضرموت في بحثه " دور الحضارم في صناعة السفن الخشبية بميناء عدن والعمل عليها "  . 
     عدن كانت تستعيد ماضيا وتبني حاضرا وتتطلع إلى مستقبل . وبعد ان كانت قرية كبيرة جار عليها الزمن حين احتلها الانجليز مطلع العام 1839م، اخذت  تستعيد دورها منذ اللحظة التي اعلنت فيها ميناء وسوقا حرة ، وسيسارع التجار إليها من كل مكان بحيث ازدهرت معه التجارة .. بحر شاسع ستعبره السفن محملة بالبضائع والناس من والى عدن ، وبالتالي ستبرز الحاجه إلى مزيد من السفن ، وستغدو وجهة كل من يسعى الى تحقيق حلمه بعد ان غدت صلة الوصل من الشرق والغرب ..
   كل صناعة لابد لها من توفر عدة عوامل لكي تنجح . وصناعة السفن الخشبية في عدن توفر لها كل ماتحتاج إليه ، بدء من الموقع الى راس المال ، والمواد الخام ، واليد الماهرة ، والقوانين المشجعة على الإستثمار ..
    مامن مكان اسر التجار الهنود والعرب الحضارم مثل عدن . ماان جاء عام 1855 َحتى سارع بعض التجار العرب والهنود إلى بناء دكة المعلا  ،  في هذه المساحة التي تمتد اليوم  من  حجيف حتى باب عدن ، قامت ورشة عمل  كبيرة ، ونشأ تاريخ معلا دكة ، لتغدو المركز الرئيس لبناء السفن الخشبية في عدن . المؤرخ العدني عبد الله محيرز ينقل الينا الصورة التي صارت عليها المعلا في القرن التاسع عشر. حيث نمت كميناء ومرسى للسفن الشراعية ثم السفن البخارية الصغيرة ، وشيدت فيها عدد من مخازن البضائع والأرصفة ، وبذلك باتت موانيء عدن من اهم الموانئ في المنطقة العربية آنذاك . بل المنافس للموانئ العالمية في امريكا واوربا ،  ولما كانت دكة المعلا المرسى المناسب لمثل هذه السفن فقد كانت تكتظ بالسفن الشراعية التي بلغت  1400 سفينة في العام ، من اصل نحو 6000 سفينة كانت ترسو في الميناء في سنواته الذهبية ( 1955 - 1967) . تفرغ حمولتها ، وفي نفس الوقت تشحن بالبضائع التي تعيد عدن تصديرها إلى موانئ الخليج وشرق افريقيا والهند وغيرها في حضرموت ..
      يعرف الناس عن دور الحضارم في إزدهار التجارة في عدن ، وكان مشاهير كبار التجار من آل بازرعة وآل باشنفر  وسواهم على كل لسان ، لكن  دورهم في صناعة السفن الخشبية في عدن ، لم يحظ بنفس القدر من الشهرة ، ولم يسمع به إلاقلة من الناس . ولعل هذا مادفع الباحث طاهر المشطي إلى التصدي لهذه المهمة   . وقد بذل جهدا ووقتا يستحق عليهما الثناء  بحيث يمكن القول من خلال النتائج التي توصل اليها دون مراء من  ان صناعة السفن الخشبية في عدن كانت صناعة حضرمية وديسشرقاوية بامتياز ..ليس ذلك فحسب بل ان الربابنة ( النواخذة ) والبحارة الذين تولوا قيادة تلك السفن ، ومخروا بها في اعالي البحار ،  حتى وصلوا بها إلى موانىء الهند و شرق افريقيا وموانئ الخليج ، كانوا في اغلبهم من ابناء الديس الشرقية . 
 
  ساحل بازرعة ..
  ساحل باشنفر ..
  ساحل باسويد ..
 هل سمعت بوجود هذه السواحل في عدن من قبل ؟ 
    اغلب الناس ، سمعوا مثلي بساحل ابين ، وساحل جولد مور . وساحل العشاق ، والغدير ، والعروسة . لكن تلك كانت شواطىء للنزهة والسباحة .اما السواحل التي يشير اليهاالباحث  ، فتقع في دكة المعلا . وفي هذا الشريط الساحلي  تم بناء العشرات والمئات من سفن وقوارب الصيد ونقل الركاب والبضاثع بمختلف الاحجام على يد امهر الصناع  الحضارم . 
    كل صناعة لابد لها من توفر رأسمال وداعمين ، وصناعة السفن الخشبية في عدن توفر لها ذلك . ومثلما كانت اليد الماهرة حضرمية ،  فان راس المال كان حضرميا . واشهرهم في ذلك الوقت كما اورده الباحث طاهر المشطي ، كانوا  آل بازرعة الذين امتلكوا أسطولا كبيرا من السفن التي تمت صناعتها خصيصا لهم من قبل ال بن ربيد ونجاري الديس الشرقية . 
   ويأتي بعدهم ال باشنفر الذين امتلكوا عددا من السفن الخشبية. يليهم في المرتبة ال  باسودان ، وباطويل ، وبارحيم  الذين صنعت تلك السفن لحسابهم وامتلكوها وشجعوا صناعتها ، وإلالما ازدهرت كل ذلك الازدهار ، وصمدت قرابة قرن الا ربع  . ولم ينافسهم في ذلك احد غير التاجر الفرنسي انطوني بس ، الذي صنعت بعض السفن لحسابه واشترى البعض الآخر من ملاكها الحضارم كما جاء في البحث .  
     ماان جاءت أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين حتى اصبحت عدن احد اكثر موانىء العالم نشاطا ، بل الثانية بعد نيويورك في الترتيب ، ومنافسة له ولميناء ليبفربول بفضل قوانين الملاحة البحرية التي وضعتها بريطانيا . وادى التنافس التجاري الشديد بين كبار ملاك السفن   الحضارم بازرعة ، باشنفر ، باسودان ، وشركة البس وغيرهم ، على خطوط الملاحة بين الهند والقرن الافريقي وشرق افريقيا ، والخليج العربي إلى زيادة الطلب على صناعة السفن  . 
      
       العامل الثاني كان في توفر المواد اللازمة لصناعة السفن من اخشاب وحديد وادوات نجارة  ، ونلاحظ سيطرة تجار عدن على تجارة الأخشاب ، وتلك التي تدخل في صناعة السفن التي يتم استيرادها من الهند  ،  وليس من باب الصدفة ان احد مصدريها من ميناء كاليكوت عائلة ( بارامي ) الحضرمية وكلاء ال بازرعة الذين يمتلكون اكثر السفن الشراعية في عدن . ومن مستوردي الأخشاب  ,مسيو انتوني بس " الذي يمتلك اكثر من 13 سفينة ، واخر يدعى "برمجي" من الطائفة الهندوسية ويمتلك عدة سفن . اما الادوات الحديدية فقد كانت تصنع محليا في عدن في محلات حدادة على ساحل المعلا تعود لآل محروس ، وهم ايضا من ابناء الديس الشرقية . 
    ازدهار التجارة في عدن والحاجة الى مزيد من سفن نقل البضائع والركاب  ساهم في انتقال مزيد من الحضارم المؤهلين ولاسيما في صناعة السفن والملاحة البحرية  الى عدن وخاصة من المعالمة والمختصين بصناعة القوارب والسفن الخشبية ممن ستقوم على عاتقهم هذه الصناعة التي تتطلب خبرة ومهارات خاصة ليست في سواهم . وبهذا توفر العامل الثالث لصناعة السفن الخشبية في عدن . 
   وستغدو دهشتنا بالغة ، عندما نعلم ان صناعة السفن والقوارب الخشبية كانت تتم بطريقة يدوية وبالآت بدائية ، ولكن بدقة متناهية ، وبمقاييس ومسافات وحسابات لاتخطىء  " دون ان يتخرج صناعها من كليات هندسة اومعاهد فنية .  ولعل هذه الحرفية والدقة المتناهية تلك  مايقف وراء تلك الصناعة  التي اعطت علامة الجودة للسفن الخشبية التي صنعتها عائلة آل بن ربيد من ابناء الديس الشرقية رواد وشارة السفن الشراعية التي ورثوها عن الاباء والأجداد ، بحيث اصبحت حكرا عليهم في الساحل الجنوبي بنسبة يحددها الباحث ب 96% ، والنسبة الضئيلة الأخرى تعود إلى اسر آل بازياد وآل باراشد ، وآل الصيعري وهم ايضا اما من الديس الشرقية او من الغريفة وهي من قرى الديس ايضا.. يعني ديسية ديسية مافي شك !! 
    يشيرالباحث طاهر المشطي إلى تطور جديد دخل على صناعة السفن الشراعية منذ نهاية العقد الثالث من القرن العشرين هو دخول الماكينة . استبدال الشراع وقوة الدفع بالرياح بالماكينة ، قلص المسافات لكنه لم يقض على صناعة السفن الخشبية .. والمسافة التي كانت تقطعها بين عدن والمكلا في الماضي في 12 يوما صارت تقطعها في ثلاثة ايام . يذكر الباحث ان اول من وضع ماكينة ديزل على تلك السفن كان التاجر الفرنسي انتوني بس سنة 1939م وبعده الشيخ علي بن محمد بازرعة ، ثم تبعهما الاخرون وتطلبت المنافسة صنع سفن اكبر حجما وسعة .. ماقضى على تلك الصناعة شيء آخر .....
 
            وللحديث بقية

مقالات الكاتب