الرئيس علي ناصر محمد.. رحيل الصديق جان عبيد

لم يكن الأستاذ جان عبيد رحمة الله عليه شخصاً عادياً..

كان يمكن منذ اللحظة الأولى التقاط توهجه، عينان تلتمعان بذكاء حاد ودفق محبة، تسمع في صوته الثقة بالنفس ممزوجة بثقافة موسوعية عميقة..
كانت لديه كاريزما طاغية، صعب أن لا تحبه.. وأنا احببته حقاً، منذ التقينا لأول مرة في باريس. 
كان وزوجته السيدة لبنى البستاني ابنة قائد الجيش اللبناني الأسبق إميل البستاني حين أقبل لمصافحتي بلباقته ومهارته العالية في التواصل..
تحدثنا لربع ساعة كانت كافية لوصل خيوط لا مرئية، أنشأت علاقة عائلية جميلة بين أسرتينا.  
فتبادلنا الزيارات في باريس وبيروت وطرابلس ودمشق واللاذقية 
وتكررت لقاءاتنا لاحقا، إلى قبل وفاته ببضعة أشهر في عشاء ببيته في بلونة قرب بيروت.
كنت معجباً بثقافته الراقية الرافضة للانحدار الذي نشهده في العقود الأخيرة .. اذكر انه قال لي مرة باستنكار:
معقول يا ابو جمال بعد أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز..أن هناك اليوم اغنية تقول "قرقورك يا بديعة .. قرقط كل الزريعة؟"..
أجل كان خفيف الظل أيضاً، ومتحدثاً طلقاً ومضيافاً، فقد اعتاد الناس على قصد قلعته الأنيقة في تربل ظهر كل أحدٍ في ملتقى مميز للسياسة والفكر والمجتمع. 
أذكر أنه دعانا للإقامة لديه والاحتفال برأس السنة مرة، وخلال تلك الزيارة رافقنا في جولة في أرجاء القصر الجميل الذي بناه فوق قمة جبل تربل قرب مدينة طرابلس شمال لبنان مطلاً على البحر. ثم أخذنا الى درج مخفي صاعد الى برج في اعلاه غرفة صغيرة. كانت مخصصة لخلوة لا يقاطعه فيها أحد، كأنه في قمة صاري سفينة ضخمة.
كنت معجباً بتنوع ثقافته واطلاعه على مختلف الأديان، لدرجة أنّه حاجج مفتي سورية أحمد كفتارو حين التقاه في تقبّلي العزاء بوالدتي في دمشق عام 1996م، يومها أبهر عبيد كفتارو، بمعرفته العميقة بالدين الإسلامي، بل وحفظه غيباً للآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة وتفسيرهما -وهو المسيحي- أكثر من كثير من المسلمين..
كانت مسيرة جان عبيد طويلة وناجحة. 
منذ بدايته كصحفي بعد أن درس الحقوق وظل نائباً في مجلس النواب لسنوات طويلة وعمل مُستشاراً للرئيسين إلياس سركيس وأمين الجميّل، وزيراً للتربية ووزيراً للشباب، ووزيراً للخارجيّة، لكن طموحه السياسي الذي لم يتحقق هو أن يتسلم رئاسة لبنان، مع أنه كان أحد المرشّحين الدائمين لرئاسته..
أقلّب الحبات الكبيرة لمسبحة الكهرمان المميزة التي أصرّ أن يهديني إياها في لقائنا الأخير، وأدعو لروحه بالرحمة..
سيبقى صوته يرن في بالي.. مداعباً دائماً.. مبتسما أبداً... مقبلاً على الحياة.. مخفياً في داخله الأكثر..
لا.. كما قلت بدايةً.. جان عبيد لم يكن شخصاً يمر مرور العابرين.. 

رحمة الله عليه..

مقالات الكاتب

لبنان تحت النيران

لبنان، جوهرة الشرق الأوسط، والتي قال عنها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل: «إنها نافذة زجاجية معشقة وم...