مقال لسناء مبارك.. جربت تعيش بدون هاتف ولا إنترنت، يومين في بلد لا تعرف فيه مكانًا ولا أحدًا؟

هذا ما حدث معي أثناء سفري قبل أيام، كان عقد الهاتف قد انتهى وقمتُ بتجديده في وقت سابق، وحصلتُ بناءً على ذلك على شريحة جديدة برقم سري جديد، وشرائح الهاتف هنا لا يمكن تشغيلها دون إدخال الرقم السري. كان من عادتي أن أخبّئ رقم الشريحة في غلاف الهاتف، وطوال الوقت كان هذا الفعل منقذًا بحق، لكن البائع في مركز الاتصالات كان قد لمح ما كنت أنتوي فعله، فأخبرني أنها أغبى فكرة على الإطلاق، لأن من يفكر في سرقة هاتفي، سيجد هدية العمر داخل الغلاف.

أنا كنتُ قد نسيتُ أمر السرقات هنا في بلاد الفرنجة، ولكني استمعتُ لنصيحة صديقي البائع لأن النصيحة في عُرف العرب "بجمل".

حزمتُ الحقيبة وذهبتُ في سفري والكارت بالرقم السري يرقدان بأمان في المنزل. ثم حلتْ الطامة، كان الهاتف قد انطفأ في نهاية الرحلة ولما عاودت شحنه اكتشفت أنه لا يمكنني تشغيله دون الرقم السري؛ الذي نسيته لأني لم أكن قد لمحته الا مرة واحدة، فكان عليّ مواجهة قدري الجديد، يومان دون هاتف ودون خدمة ال GPS التي هي "أهم من اسمك" في الترحال في بلاد الشمال الباردة صاحبة الأرقام الفلكية في تسعيرة التكاسي. 

كنت أشعر أني دون بصر ولا بصيرة، دخلتُ صيدلية بجانب المحطة واخبرتهم بقصتي الحزينة فطلبوا لي تاكسي ليوصلني إلى الفندق.
كان لدي العديد من المشاوير التي يجب أن أقضيها، وأن أجد طريقة لأصل بها غدًا إلى وجهتي الأهم، كنتُ محاصرة بالجهل، عيني الثالثة انطفأت فجأة وبقيت الاثنتان تحدقان في الجهل والمجهول، جهل المكان والزمان والأشخاص.

في الفندق اتصلتُ بالإنترنت من اللابتوب وفتحت خريطة جوجل وطبعتُ فيها كل الوجهات التي يجب أن أذهب إليها، ثم قمت برسم الخريطة على ورقة، بدتْ مزرية لدرجة أنّ من رآها اعتقدها تعاويذَ من نوعٍ ما، ولأول مرة أعرف المعنى الحرفي لكلمة "خرابيط دجاج".

خرجتُ أتجول وأنا أنظر للخريطة، مفخرتي أمام نفسي ورمز  "الحلول المبتكرة".. رحتُ أسأل المارة وأضعهم في الصورة مع خريطتي العزيزة، سألتُ رجلًا خرج يمشّي كلبه، فلما رآني وخريطتي العجيبة اعتقدني مخبولة فلم يرد بكلمة، حاولتُ أن أقنع نفسي بأنه مجرد شخص عنصري، واحد من الذين نقابلهم كل يوم، ثم وجدتُ شابة تركض في الشارع فأوقفتها ورحت أسألها مشيرة إلى اسم شارع في الخريطة، فقالت إنها لا تعرفه وذهبت عني هي أيضًا مرتابة، ثم بعد الجهد الجهيد ونظرات التعجب التي أحاطتني، قررت إخفاء خريطتي التي يهابها الناس وتشوّش عليهم، ورحتُ اسألهم ببساطة عن المكان، فشرحت لي إمرأة لطيفة الطريق، ووجدته بكل سهولة.

في اليوم التالي كنّا ندردش على طاولة الإفطار أنا والزوجان مالكا الفندق الصغير في طرف المدينة عمّا حدث معي البارحة، كانا قمة في اللطافة ويبدو أني "صعبت عليهم" فحظيتُ منهما بتوصيلة لطيفة إلى المكان الذي أردته وبجولة أشبه بالسياحية في أرجاء المدينة. 

جعلتنا التكنولوجيا وهي تحاصرنا وتسهّل حياتنا وتحركاتنا نعتقد أنها البديل عن التعاملات بيننا نحن البشر، نظن وقد امتلكنا العالم بين أيدينا أننا لا نحتاج أحدًا، ثم نقع في مواقف كهذه تعلمنا أننا في النهاية أقدارُ بعضنا البعض.
 تذكرت في خضم ماحدث مقولة لهيلين كيلر
What a blind person needs is not a teacher but another self.
لا أريد ترجمة الجملة حتى لا أخدشها.

المهم أني تعلمتُ ألا أشغّل عقلي بالأفكار الخارقة مرة أخرى، وألاّ استمع للنصائح الخارقة أيضًا
أليست أبسط الحلول هي أكثرها منفعة؟

مقالات الكاتب

أصبحتُ أمًا!

قلتُ لصديقتي رنا عندما سألتني عن إحساسي بالأمومة بعد أيام عصيبة مرتْ علينا أنا وطفلي، بأنها "إحساس د...

سنة الخروج من فخ المنتصف!

عيد ميلادي، سنة أخرى تركض لا إلى البداية ولا نحو النهاية، عام آخر يخرج من قبضة المنتصف، منتصف الثلاث...