يوميات صائمين، أصوات من شمال الكوكب (٢)

في بيتنا كانت هناك طقوسًا لازلت أجتر بعضًا منها كي أشعر أني على قيد البهجة، هنا في آخر العالم.

كنا أنا وأمي نذهب لتسوق أواني رمضان سنويًا، تجدد أمي أواني المطبخ كل عام وهي بطريقة ما تحتفظ بكل شيء قديمه وجديده على نحو بديع، تجد في مستودعها كل شيء حرفيًا، من الإبرة للصاروخ.. عندما تزوجت أختي ذهبت أمي للخزانة التي تحتفظ فيها بكنوزها وأخرجت لها مؤونة كاملة، بعدِّها وعتادها، كل ما يخطر على بال، ذهل الجميع، لا لفكرة الاحتفاظ نفسها ولكن لأنها احتفظت بأشياء جلبتها من أيام دراستها في موسكو قبل سنوات عدة، وما زالت تلك بكامل تألقها.. يبدو أني ورثت عنها بعضًا من محبتها للتحف والانتيكات والأواني والأطباق وإن كنت لن أصل درجتها أبدًا. 

اليوم مررتُ بأحد المحال المخصصة لبيع أواني المطبخ وأعدت الطقس المحبب الخاص برمضان، رغم أني أعلم أني لا احتاج ما اشتريته إلّا أني كنت بحاجة لأشعر بالانتماء، كنت هناك وحيدة كالعادة ولكن ليس تمامًا هذه المرة، فمن يمتلك الذكريات يمتلك بعض الأنس. البحث عن مباهج الشهر في مكان لا يعيره أحد أي اهتمام، مهمة صعبة من نوع آخر. ليس لأن الغالبية هنا لم يعد أحد منهم يمارس الطقوس الدينية بكل أشكالها، بل لأنهم يخافون أيضًا من امتلاك أحدنا لجذوره المتطرفة، يسألك البعض من باب الفضول إن كنتَ صائمًا فإن قلت لا؛ تنفسوا الصعداء، وإن قلت نعم فأنت في نظرهم في أحسن الأحوال كائن رجعي وظلامي يحب تعذيب نفسه لأجل وهم لاهوتي، وفي أسوئها إرهابي متستر. 

رمضان هو شهر النوستالجيا دون منازع، كل ما يتمحور حول هذا الشهر يحوم حول فكرة التعوّد، التذكّر والانتظار، وكل عادة تدخل هذا الشهر يصعب بالتالي أن تخرج منه، المسلسلات الرمضانية، الإعلانات، البرامج، الزينة الرمضانية الأطباق الرمضانية، كلها أشياء استحدثت على مراحل متفرقة وتراكمت حتى أصبحت جزءًا من أجواء هذا الشهر. لكل شخص منا على نحوه الفردي أو العائلي طقوس نكررها كل عام حتى نستشعر حلاوة الشهر الفضيل وبدونها تشعر بالنقص.

اتفهّم تمامًا مشاعر الناس الذين يتذكرون أحباءهم الذين فارقوا الحياة في هذا الشهر، لايعني هذا أنهم ينسونهم دونه ولكن لأن رمضان ليس حدثًا واحدًا منفصلًا، بل سلسلة من كل الرمضانات التي عشناها، بأحداثها وشخوصها، بالتأكيد أنت ستتذكر طبق الشوربة الذي اعتدت تذوقه من يد جارتكم أم سالم، وتتذكر الجد اللطيف أبو حسن وهو يقرأ القرآن بعد صلاة العصر أمام دكة منزله، من فينا لا يتذكر أول مرة صيام كامل، من فينا لا يتذكر حيلة الأمهات العتيقة، نشوة وصل يومين "من نصف يوم" حتى يصبح يوم صيام كامل، اختبار اللسان الذين كنا نجريه لبعضنا في المدرسة لإثبات من فينا "كلب رمضان"، من فينا لا يتذكر أول غلطة شرب أو أكل في يوم صيام، من فينا لا يتذكر كل الدعوات التي قالها بقلب ملهوف وهو يضع أولى التمرات في فمه.

وانتم ماهي الطقوس والذكريات الرمضانية التي لا تغيب عن ذاكرتكم؟

مقالات الكاتب

أصبحتُ أمًا!

قلتُ لصديقتي رنا عندما سألتني عن إحساسي بالأمومة بعد أيام عصيبة مرتْ علينا أنا وطفلي، بأنها "إحساس د...

سنة الخروج من فخ المنتصف!

عيد ميلادي، سنة أخرى تركض لا إلى البداية ولا نحو النهاية، عام آخر يخرج من قبضة المنتصف، منتصف الثلاث...