الرئيس علي ناصر محمد يكتب.. رحيل رفيق الرحلة الى جبهة فحمان 1964م

علمنا هذا اليوم بنبأ وفاة الصديق والأستاذ الكبير مكرم محمد أحمد الرئيس السابق للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في جمهورية مصر العربية.

تعرفتُ إليه أول مرة عام 1964م في مدينة البيضاء بشمال اليمن، ونحن في طريقنا إلى الجبهة الوسطى، عندما جاء مراسلاً صحفياً لتغطية أحداث ثورة الرابع عشر من أكتوبر في جنوب اليمن، حيث رافقنا في هذه الرحلة التاريخية التي سجلتُ وقائعها بالتفصيل في الجزء الأول من مذكراتي. وكان برفقتنا المناضل محمد علي هيثم وعلي محمد الصالحي وعبد الله شيخ الرباش وفضل عبد الله الرباش ومحمد هميش، يتقدمنا شيخ المناضلين محمد ناصر الجعري الخبير بالطرقات والجبال والأودية والكمائن، ونحن في طريقنا الى فحمان. كان الجعري يقودنا وسط ظلام دامس والرذاذ يبلل ملابسنا، نتوقف على صوته وهمساته، ونتحرك على إشاراته وحركاته وتوجهاته بنا إلى المجهول، نسير ولا نعرف نهاية للطريق، كذلك لا نعرف ما مصيرنا ولا نعرف أين نتوقف، ولا أين ننام. لا مكان للجلوس، لا مكان للراحة، وفي مثل هذه الحالة لا مكان للتفكير بالجوع أو بالأكل! الظلام يلفنا وهو سيد المكان، لكن ثمة نجوم تتلألأ فوقنا، ولكنها بعيدة بعيدة جداً، وتأخذ بالاختفاء تدريجياً في اتجاه الغرب خلف الغيوم، والجبال العالية، والفضاء اللامتناهي. لم يكن أحد منّا يعرف نهاية طريقنا، ولا كذلك يعرف مآل ثورتنا، كل ما كنا نعرفه أننا نحمل أرواحنا على أكُفّنا، في هذا العالم المجهول ولا ندري في أي ساعة تأتي المنية. 

في نهاية هذا المشوار الصعب كنا نعرف أن الهدف الذي نسعى وراءه هو طرد الاستعمار البريطاني من جنوبنا الحبيب، ولم يكن يهمنا من يحكم عدن والمحميات غداً، سواء كنا نحن أم غيرنا، المهم هو أن يرحل المحتلون من عدن كما عبر عن ذلك الرئيس جمال عبد الناصر ويبقى الإنسان حراً والأرض حرة.

عندما أصبحنا بالقرب من رأس جبل ضلاعة، قال الشيخ المجرب محمد ناصر الجعري: علينا أن نرتاح الآن. كان يعرف مداخل ومخارج هذا الجبل جيداً، وبخبرته هذه ودرايته أدرك أننا قد تجاوزنا مرحلة الخطر الماثلة في الكمائن التي ينصبها رجال الأمير جعبل للثوار وهو نائب سلطان العواذل في مكيراس، والذي التحق بالثورة وبجبهة التحرير بعد ذلك، لذلك لم يترك لنا الشيخ فرصة ولو قليلة للراحة طوال الطريق لا للتوقف ولا لالتقاط الأنفاس، إلا عند النقطة التي اطمأن فيها إلى زوال كل خطر عنَّا، ليس خوفاً من الوقوع في إحدى تلك الكمائن فحسب بل خشية أن ترصدنا عيون الأمير جعبل المدسوسة في كل مكان قبل أن نصل إلى هدفنا.

وكنتُ أردد ونحن نسير في الطريق بيت الشعر التالي:

مشيناها خطىً كُتبت علينا ومن كُتبت عليه خطىً مشاها

استلقينا زمناً، كم من الوقت دام؟ لا ندري! كل ما ندريه أن أشعة الفجر مزقت فجأة ظلام الليل الحالك، وصار بوسعنا أن نكون رفقاء هدف ومسيرة لأول مرة نتعارف منذ أن غادرنا البيضاء في طريقنا الى الجبهة الوسطى.

كان خوفنا الكبير على الصحفي المصري مكرم محمد وهو أول صحفي مصري يدخل المنطقة الوسطى منذ قيام الثورة في 1963م. وكنوع من التمويه، فقد ألبسناه معوز "كاكي" وعمامة "كاكي". وكان يعلق الكاميرا على كتفه، وعلى خصره الزمزمية التي أخذ الماء النظيف النقي الذي جلبناه من البيضاء ينفد منها تدريجياً.

وفي طريقنا التقينا بمجموعة من البدو استقبلونا بحفاوة ورحبوا بنا على طريقتهم، كنا نستطيع أن نرى ونحس بهم وهم يتشاورون خلفنا وحولنا. كانوا يسألون من نحن، ومن نكون، وما أسماؤنا، وإلى أي القبائل ننتمي؟! لكن أكثر شخص كانوا يسألون عنه هو ذلك الشخص البدين والأبيض، الذي لم يكن سوى مكرم محمد أحمد.

ويبدو أن الجعري أخبرهم عنا، ومن نكون ولكنه حرص على ألا يكشف لهم عن شخصية مكرم.

ومثلما هي عادة هؤلاء البدو في الكرم، فقد ذبحوا لنا الذبائح، وأخذوا يقدمونها لنا وهم يقولون:

هذا الرأس للمياسر - محمد علي هيثم. وأشاروا إليه.

وهذا الرأس لـ آل حسنة - لعلي ناصر. وأشاروا نحوي.

وهذا الرأس للجعري.

لكن المفاجأة المُذهلة لنا جميعاً، وأكثرنا مكرم طبعاً، حين قالوا وهم يشيرون إلى مكرم محمد أحمد:

وهذا الرأس لابن جمال عبد الناصر!

وقد شعر بالارتياح الكبير بهذا التكريم. 

وبعد تناول العشاء نمنا نومة هادئة بعد رحلة طويلة من التعب والجوع والعطش وكان مكرم يكتب كل ما يشاهده ويسمعه ونحن في الطريق الى "عرقوب امرجل" و "صرة النخعين" و "وادي عران" و "منطقة الوضيع" و "كمران" و "مران" و "فحمان" حيث استقر بنا المقام في جبل وجر المنيع. علمت حينها السلطات البريطانية عبر مخبريها بوصولنا الى جبل وجر الذي يطل على مودية، وقصفتنا طائرات "هوكرهنتر" ولكننا لم نتعرض لأذى وسقطت إحدى الطائرات وجرى تصويرها من قبل الصحفي مكرم وكان ذلك يعتبر انتصاراً لمهمته الصحفية، كما التُقطت صور له أمام بعض أجزاء الطائرة ونُشرت بعد ذلك في صحيفة الاهرام المصرية.

استمرت زيارة الصحفي مكرم الاستطلاعية لمعرفة وضع الثورة من الداخل والتعاطف معها، وبعد أكثر من شهر غادر مكرم ويرافقه الشيخ المناضل محمد ناصر الجعري الذي عاد به الى البيضاء وتعز. 

لقد ألف كتاباً عن هذه الرحلة وأسماه "الثورة جنوب الجزيرة" تحدث فيه عن رحلته الى دثينة والضالع والشعيب وبيحان بعد سقوطها عام 1967م ويُعتبر كتابه هذا أحد المراجع المهمة عن تاريخ الثورة والثوار في الجنوب، وصدرت له أيضاً العديد من المؤلفات والكتب... وكان مكرم  المراسل المصري الوحيد للأهرام من صنعاء أثناء حصار السبعين يوماً، وكانت تُتابع تقاريره باهتمام وأحياناً قلق يمني من قبل الطلاب اليمنيين في مصر الذين كانوا يخشون انتصار القوى المعادية للجمهورية في أشد الحملات لوأدها والقضاء عليها بالقوة، كما علمتُ، لذلك ارتبط اسمه بدوره الفدائي مع ثورتي اليمن سبتمبر وأكتوبر..

لم تنقطع اتصالاتنا معه فقد كنا نلتقي في مصر عندما كان نقيباً للصحفيين ورئيساً للمجلس الأعلى لتنظيم الاعلام، وقد جمعنا اللقاء الأخير معه في إذاعة صوت العرب بحضور بعض الشخصيات التي شاركت في عملية صلاح الدين بتعز، وأيضاً في مكتبه، وكان مهتماً بالتطورات في اليمن ويؤكد على وقف الحرب وإحلال السلام في اليمن لأن الاستقرار في اليمن هو الاستقرار للمنطقة ولمصر التي تعتبر اليمن عمقاً استراتيجياً لها فاليمن تتحكم بباب المندب ومدخل البحر الأحمر، وهذا أحد الأسباب الاستراتيجية التي دفعت الرئيس جمال عبد الناصر للوقوف الى جانب الثورة اليمنية في الشمال والجنوب. 

وتجسدت هذه الرؤية في حرب أكتوبر عام 1973م عندما وقف النظام في عدن الى جانب مصر واستقبل السفن الحربية البحرية المصرية في عدن وبريم وقد احتجت اسرائيل على هذا الموقف واعتبرته تهديداً لها وللملاحة الدولية..

واستمر التواصل معه حتى وفاته رحمه الله، وبوفاته خسرتْ الثورة اليمنية صديقاً وخسرت مصر والأمة العربية علماً من أعلام الصحافة والاعلام والسياسة.

مقالات الكاتب

لبنان تحت النيران

لبنان، جوهرة الشرق الأوسط، والتي قال عنها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل: «إنها نافذة زجاجية معشقة وم...