تهامة.. مدينةُ الليلِ الطويل

تقولُ صاحبة الثلاثية الشَّهيرة: "أنا من أهلِ المدينة المنكوبة يا سيدي، ما جدوىٰ التفاصيل؟!"، لا بأس يا سيدتي، سنتحدثُ قليلًا عن شيءٍ من التفاصيل.. لزامًا أن نتحدَّث.

الحديث عن المدنِ يشبه الحديث عنِ الإنسان، وما الإنسانُ إلا صورة مصغرة لحالِ المدينة، وجهانِ لقَدَرٍ واحد، حتىٰ الأرواح يتشابهونَ فيها، فكلما رأيتَ أرواحًا منهكة؛ ثق أنَّ المدينةَ أمدتهم بذلك.

مدينتنا مستلقية على البحر، تنامُ على إيقاعه، تتنفسه، ويجري دمًا في شرايينها، لقد كانَ البحر حارسَ مدينتنا الممتد إلى الأفقِ البعيد، حيثُ تغيبُ الشمس، وتتلاشىٰ معها بقايا الأحلام!

أنا من هذه المدينة.. لحظةَ رأيتها؛ رأيتُ بكلِّ وضوح فرحًا أنثويًا ينمو في أعماق مآقيها.. لم أعد آراه.. أنا من هذه المدينة.. حيث إنكسارات الضوء، وسمرة الوجوه، مدينة الليل الطويل، المدينة التي يعود تسميتها كما تقولُ الأسطورة إلىٰ امرأة كريمة الخصال، كانت تضيفُ المتعبين من ضراوةِ الحر.. وشقاء الأسفار، أنا من هذه المدينة، من حواريها الحزينة، من أسواقها الشعبية المهملة، من قلبِ البحر الحصين.

جُمعَ لها ما تفرقَ في غيرها، كانت مثالًا للجمال، إنسانها مثال للقيمِ الكبرىٰ التي ينبغي تعميمها على إنسانِ الكوكب، حياتها، طقوسها، عاداتها، حكاويها، سِفر من البهاء تفاخر به. هذه مدينتنا التي تعيشُ على الثرثراتِ العابرة في قارعةِ الطرق، ومجالس السَّمر حتىٰ مطلعِ الفجر.

وعندما عرف الأوغاد طيبة إنسانها، ومكارم صفاتها، وحضور موقعها، أمعنوا في تغييبها، في قتلِ الحياة في قلبِ ساكنها، أحالوها إلى بقعةِ تيه، إلى جحيمٍ مستعر، لقد أنهكوها فتلاشىٰ الضياء منها.. لقد قتلوا الضياء، لكننا لم نمت!

في لحظةِ السِّلم، نظروا إلى الإنسان هناك كأنه صبي لا يعقل، بحاجةٍ إلى وليٍّ عاقل يسيِّر حياته، يقوده كأعمىٰ لا حول له، وفي لحظةِ الحروب الآثمة، تفاقمَ الأمر، تحول الولي العاقل إلى حارسٍ للجحيم، حيث يقبع الناس، يضربهم بسياط الغضب، كيف نقنع القاتل القادم من مجاهل التاريخ عن معنىٰ الإنسان النابتِ في هذه المدينة؟! أنىٰ لقاتلٍ وضيع أن يعرف كنْه الروح؟! 

ستنتهي الحرب، سيتلاشىٰ أرباب الموت، سينزاحون عن مدينتنا، لن نقبل مرة أخرى بأن نكون صبيانًا يقودهم غبي، لن نرضىٰ أن نركن إلى ظلِّ الغريب، لن نقبع في دكةِ الصمت، سنعيد للضياء المقتول حياة تليقُ به، سنرفع الأغلال عن إنسانِ المدينة، سنطلبُ من الطيبة الملتصقة بأرواحنا أن تبقى في دواخلنا، لن نظهرها لهم، لا ينبغي أن تُظهرَ الطيبة لنذل؛ سندوسُ عليهم، ونمضي، لزامًا أن نفعل ذلك.

#خالد_بريه

مقالات الكاتب

العنصرية:تلكَ عشرة كاملة

«١» تظافرتْ منذُ القِدَمِ العديدُ مِنَ العواملِ والأسبابِ المعقَّدةِ في خلقِ مجتمعٍ شديدِ التَّ...

بكل وضوح

كل شيءٍ هنا محسوب جيدًا، التهاني، التعازي، المديح، وحتىٰ التضامن.التضامن ليسَ خالصًا،دقق في أصحابِ ا...

خاطرك مجبور = أنت كفو

منذ بدايةِ رمضان، تحدَّثَ النَّاس عن برنامجِ (أنتَ كفو) البحريني، وحُقَّ لهم ذلك؛ لأنه قطعةٌ من الجم...

تهامة.. واجترار الغياب!

منذ إعلان الرياض، وإعلان المجلس الرئاسي، تساءل بعضهم، وأين ممثل إقليم تهامة؟!وهذا سؤال مشروع، إذا رأ...