أصدقاء اللحظاتِ الحرجة

 

نصٌّ عابر 

من الأمور البدهية؛ أنَّ الإنسان يميلُ إلىٰ الأنس، يأنسُ بمن حوله، يتكثر بهم من قلة، ويتقوىٰ بهم من ضعف، ولهذا، تبقىٰ الصَّداقات الأولىٰ التي تنشأ في لحظةِ الوحشة والألم، أحد أهم الروابط الوثيقة مدىٰ الحياة!

تصلُ إلىٰ مدينةٍ نائيةٍ عن موطنك، لا تعرفُ أحدًا، ولا يُلقي أحد لكَ أي بال، وحيد إلا من رجعِ الصّدىٰ في داخلك، ثم لوهلةٍ يظهرُ قبالتكَ إنسانٌ نبيل، يشعر بما يضطرمُ في داخلك، فيزيحُ عنكَ الأوجاع، والوحشة التي أنهكتِ الروح..!

نغفلُ دومًا.. أنَّ الإنسان الذي ظهرَ فجأةً كفارسٍ نبيل؛ رزقٌ هبطَ من السَّماء، وهل هناك أعظم رزقًا من إنسانٍ بُعثَ إليكَ َيمسحُ عنك توحش المدن، وأزيزها، وثقل الاغتراب، ويملأ حياتكَ كأنكَ تعيشُ في بقعةِ النشأةِ الأولىٰ التي خلفتها وراءك؟!

قررتُ مرةً أن أسافرَ وحدي إلىٰ مدينةٍ من المدن، لأسبابٍ عدّة، أصابتني الغربة ما إن حططتُ رحلي؛ شعرتُ بالوحدةِ، وأنا ثقيلُ الظهر بها، لا أحدَ يعرفني، ولا أعرفُ أحدًا، وإني امرؤٌ يتطلّبُ العذر للأُنس، ويتعلقُ بالريحِ للخروجِ من شرنقةِ الصَّمت.. وعندما هجمَ الليل مسرعًا عبر المكانِ الذي خُصِّصَ لأضعَ رأسي فيه، لم يكسر أحدهم عزلتي، ولو بسؤالٍ عابر.. فانكفأتُ على نفسي أواسيها وتؤنسني؛ للهروبِ من ليلةٍ طويلة جثمت على روحي! 

بعد مضيِّ ليالٍ طوال؛ كسرَ اثنانِ حاجز العزلة بيننا، كأنهما شَعَرَا بما أعانيه، وعجزي عن الإفصاح، لعلةِ الخجلِ التي أعانيها.. أشعرُ أني تعافيتُ منها مؤخرًا. ثم بعد مدة، انتقلتُ إلىٰ مدينةٍ أخرى.. وعلمَ الله أني ما نسيتُ صنيعهما، ما حييت، وإن لم يشعرا بذلك.

عندما قدمتُ في سفري الأخير إلى المدينةِ التي أدرسُ فيها، رماني القدر وسط شبابٍ من أماكنَ متفرقة، حازوا في نفسي قصبَ السَّبق، مكانتهم حتىٰ اللحظة لا يدانيها أحد، بالرغم من الفراق الذي ضربَ بيننا، إلا أنَّ وقعهم في نفسي كبير؛ لأنهم أسهموا ذات اغتراب، في التخفيفِ عني من وعثاءِ المدنِ ووحشتها!

هؤلاء يطيبُ لي أن أسميهم "أصدقاء اللحظاتِ الحرجة"؛ لأنهم يُقبلونَ عليكَ دونَ طمعٍ بما لديك، ولا يعرفونَ من تكون، يختارهم الإله ليكونوا امتدادًا لجُرْهُم، القبيلة التي آنست وحشة من يقطنُ الأرضَ الممْحِلة، لتتحولَ إلىٰ أعظم بقعةٍ للأنسِ مع الأرضِ والسَّماء!

إن أنسىٰ، فلستُ أنسىٰ يوم ذهبنا إلى مدينةِ حجّة، وأنا بعدُ في المرحلةِ الابتدائية، طلبًا للعلاجِ في مشفاها الذي تشدّ إليه رحالُ المرضىٰ من كل أصقاعِ اليمن الكبير، قدمنا ولا نعرفُ أحدًا.. استقبلنا ضبابُ المدينةِ الكثيف، وشارعها الوحيد؛ فلم نظفر بعلاجٍ ولا طبيب..! كانت الطوابير تبدأ منذ منتصفِ الليل، من أجل الحصول على فرصةِ المثول بين يدي الطبيب صباحًا.. كانت إحدىٰ تجارب العمر، ونحنُ في سنٍّ مبكرة، أن نقفَ في طابور طويل في صقيعِ ليل حجة.. إلى ما بعد طلوع الفجر، وعند الصَّباح لم نحمدِ السّرى؛ رفضوا علاجَ "أمي" لأنها نسيت بطاقتها الشخصية..!

ونحنُ في حالٍ كهذه، ظهرَ أمامنا شابٌ ظريف من أبناءِ المدينة، خبيرٌ بشِعابها، وقوانينها، رأينا فيه "مَهْدينا المنتَظَر".. ومن حينها، كان التلافي سهلًا، وباب العافية مفتوحًا..! ما زلنا حتى اللحظة نفخرُ بصورةٍ يتيمة تجمعنا مع المخلصِ العظيم.. كيف لنا أن ننساه.. وقد منحنا الحياة في خرائطِ التيه بمدينة حجة!

صفوة القول: لا تفرطوا بهم.. ولا تتركوا النِّسيان يسدل ستائره على ذكراهم.. ليبق الدعاء بينكم خيط الوصل، وإن تفرقت بكم طرقُ الحياة.

#خالد_بريه

مقالات الكاتب

العنصرية:تلكَ عشرة كاملة

«١» تظافرتْ منذُ القِدَمِ العديدُ مِنَ العواملِ والأسبابِ المعقَّدةِ في خلقِ مجتمعٍ شديدِ التَّ...

بكل وضوح

كل شيءٍ هنا محسوب جيدًا، التهاني، التعازي، المديح، وحتىٰ التضامن.التضامن ليسَ خالصًا،دقق في أصحابِ ا...

خاطرك مجبور = أنت كفو

منذ بدايةِ رمضان، تحدَّثَ النَّاس عن برنامجِ (أنتَ كفو) البحريني، وحُقَّ لهم ذلك؛ لأنه قطعةٌ من الجم...

تهامة.. واجترار الغياب!

منذ إعلان الرياض، وإعلان المجلس الرئاسي، تساءل بعضهم، وأين ممثل إقليم تهامة؟!وهذا سؤال مشروع، إذا رأ...