حين تكون الشجرة وطناً

قبل ايام كنت في زيارة لحديقة الأزهر في القاهرة وقد اندهشت لجمال تلك الحديقة ونظافتها   وترتيبها واكبرت القائمين عليها . حديقةً واسعة ومريحة اكثر اشجارها  النخيل المنضود فهو نخيل مشذب ومهذب وطلعه كأنه مصنوع صناعة لقد تدخلت فيه يد الإنسان فغدا في غاية الجمال والنظام .
تلال صغيرة خضراء ونوافير  وشلالات وبحيرات مدهشة وهواء 
عليل وروائح زكية تنطلق من الشجيرات الصغيرة والزهور. 
وجدت هنالك اشجارا لا تعد ولاتحصى كثيرا منها لم اره من قبل ولم اعرف له اسما ولكن خطر لي في تلك الحديقة ان ابحث عن شجرة السدر  انظر هنا وهناك لعلي اراها وهي الشجرة التي نسميها العلب وهي شجرة الدوم كما يسميها البعض لأن تلك الشجرة هي احب الأشجار إلى نفسي وانا بطبعي احب الشجر إلى حد الوله أقف امام الشجرة منشدها متاملا صغرت ام كبرت حتى اذا كانت يابسة .
اما شجرة العلب او السدر فهي سيدة الأشجار عندي رغم وعورتها وخشونتها وكثرة اشواكها لقد ارتبطت بطفولتنا وصبانا فتعلقنا بها حسيا ومعنويا  ، وكانت لنا مدرسةً تعلمنا تحت ظلالها واستظللنا تحتها 
وتسلقنا اشجانها وطالما تناولنا من ثمارها .
انها  منتشرة في  قرانا ولا تنافسها شجرة غيرها ، ولعل الذي اطلق على المثلث يافع، والضالع وردفان بشكل عام (مثلث الدوم) لم يخطئ نظرا لانتشار تلك الشجرة هناك وانا اجد اعتزازا وفخرا  بهذا الاسم  او اللقب ليس تعصبا للمثلث ولكن حبا في هذا الشجرة الأم والوطن .
فهذه الشجرة من اقوى الأشجار تحملا وصبرا على قسوة الطبيعة والمناخ والجدب تدافع عن نفسها بقوة من اجل البقاء وتمنح عطاءها في أشد المواسم قحطا وبردا .
عسل العلب  أجود انواع العسل  وخشبها من أحسن الخشب وحطبها من احسن الحطب وأوراقها صغيرة 
تتناولها المواشي فيدر لبنها ومنها الغسل بنكهته المميزة ، اما ثمارها الدوم فهو معروف وداخل نوى الدوم نفسها تكمن الأقراص الصغيرة الحمراء والصفراء  التي تشبة اقراص الدواء التي  نسميها شوبا وفي اماكن يسمونها الفراصيص وهي مفيدة جدا ولذيذة جدا .
 حبي لهذه الشجرة ليس تعصبا للمنطقة ولكنه حب فطري طفولي نظرا لارتباطنا بهذه الشجرة التي شابهت المنطقة التي اشتهرت بها 
ولم نكن نعرف الدرهنة والدراهين 
الا فوق اشجانها الخفاقة، وحين يحمي الفلاحون مدرجاتهم وحوائطهم فلا يجدون احسن من زربها الذي يحمل اشواكها القوية 
يضعونها طبقة فوق طبقة عاما بعد عام .
وهي على كل حال شجرة موجودة في كل محافظات الجنوب لكنها اكثر وجودا في  المناطق التي ذكرت لاسيما  في ردفان وحالمين .
كان يوما جميلا في رحاب حديقة 
الأزهر ، وبينما كنا نتغدى عصرا فوق البساط الأخضر  رأيتها من خلال الأشجار فعرفتها انها هي كأنها اومات لي من بين الأشجار محيية  تريد تشكرني على سؤالي عنها ، وبعد الغداء اسرعت إليها بقلبي قبل قدمي  فإذ بها فعلا شجرة العلب اي السدر
تاملتها معانقا كانت هي تعانق السماء  كانت أشد اخضرارا وقليلة الشوك واسعة الأوراق راوية ،بحكم البيئة الخصبة التي تعيش فيها ، وجدت فيها نفسي وقريتي وطفولتي رايت من خلالها وطني ، وشعرت انها غريبة مثلي في هذه البقعة ولكنها تمد جذورها في أعماق الأرض اما انا  فانني اذوي فوق ارض الحديقة امشي قليلا  فتنتابني دوخة فأقعد ...
 اخذت منها وريقات فعلكت منها واحدة لا غرو فقد كنا نتناول بعض اوراقها حين يحتد بنا الجوع في المراعي البعيدة حين تتاخر الأوبات إلى البيوت حتى تختفي الشمس وراء الجبال ،  وذهبت ببعض الأوراق إلى من كان يصاحبني في تلك الرحلة وهم بعض افراد عائلتي   فعرضت عليهم الأوراق فاستغربوا قالوا انت في القاهرة والمفروض تسال عن امور اخرى ليست موجودة في البلاد وتعجب منها ، فما بالك تهتم بهذه الشجرة  ومع هذا لم تستطع ام الأولاد
ان تخفي حنينها  فقد تناولت الأوراق مثلي واخذت تشمها بحنين مكتوم ،
قلت شميها جيدا لعلك واجدة فيها ريح ايامنا تلك عند سفح الجبل صغارا نرعى الغنم والضان .
صغيرين نرعى البهم يا ليت اننا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم 
قالت متهكمة اكتب مقالا في ذلك ..
وها انا قد كتبت !!
كنا اطفالا نبحث عن ثمرها الدوم من قرية إلى قرية فنعود مرة بجرابنا مليئة بها ومرة نعود بها فارغة منها وملامح الخيبة تعلو وجوهنا كنا نطرد 
برد (حادية وتاسعة)  اللاذعة بنشيد  الدوم ( يا دوم حالي تحت علب خالي .. ) .
قلت لزوجتي ممازحا وانا احاول أشدها إلى القرية مرة اخرى : أذكري لي اسماء ثلاث علوب من علوب القرية فمضت تذكر لي اكثر من ذلك: علب الزهر ، علب الجلب ...
قلت لها لو شئت ان اذكر لك اسماء عشرين شجرة علب في القرية وما حولها لذكرت لك  قالت ليس لدي امتحان غدا في اسماء العلوب !!
اجل ان لشجر العلب اسماؤها في القرية ولها ملاكها  وكثيرا ما نشبت صراعات من اجلها وصلت حتى المحاكم .
وحين قفلنا راجعين مودعين تلك الحديقة الجميلة لمحت على يميني وانا اخرج بجانب باب الحديقة شجرة ضخمة شديدة الخضرة ملتفة الأشجان انها شجرة سدر كأنها تقف تحرس الحديقة وتمنع عنها العاديات 
نظرت إليها مسلما ومودعا 
ومرددا بيت امرئ القيس 
اجارتنا انا غريبان هاهنا
وكل غريب للغربب نسيب

في اليوم الثاني كنت في مقهى الخواجة المشهور في الفيصل 
فقصصت على زميلي رحلة الأمس  
وذكرت له ما كان من شجرة العلب 
فقال يمزح بما لا يخلو من المكر :
حين تستعيدون دولة الجنوب 
اجعلوها مرسومة في علم الدولة كما هو علم لبنان تتوسطه شجرة الأرز!!
قلت اولا قل نستعيد وليس تستعيدون ، ثانيا : كلا فانما نسعى 
جميعا معا إلى إقامة حديقة الجنوب 
الواسعة المنيعة لكل شجر الجنوب 
على اختلاف أنواعها ومناخاتها واثمارها واشكالها واحجامها تسقى من ماء واحد ...

د عبده يحيى الدباني

مقالات الكاتب