فلسطين لا ولن تصبح تاريخاً
إن كل ما يحدث ضد العرب من مشرق الوطن العربي إلى مغربه منذ تأسيس دولة الاحتلال في فلسطين هدفه الرئيسي...
يصادف اليوم الذكرى السادسة عشر لوفاة الأديب الكبير نجيب محفوظ وبهذه المناسبة فإنني أعيد نشر ما كتبته عن الفقيد الكبير في كتابي حدائق الخالدين، تخليداً لدور فقيد مصر والأمة العربية الكاتب والأديب الكبير الأستاذ نجيب محفوظ:
"أتابع الجنازة الكبيرة على شاشة التلفاز، أشارك فيها من مقعدي كما تفعل الملايين في هذه اللحظة، تودع الراحل الكبير إلى مثواه الأخير بجنازة مهيبة تليق بالأديب العظيم، الذي وضع اسم العرب على لائحة حاملي جائزة نوبل التي استحقها عن روايته "أولاد حارتنا"، وتعرّض بسببها لمحاولة اغتيال من أحد العناصر الظلامية التي تقف ضد العلم والعلماء والأدب والتنوير. وقد جاء نيله لهذه الجائزة تقديراً لإبداعه الذي وصل إلى معظم شعوب الأرض، واستحق بجدارة أن يحتل سدة الأدب لفترة طويلة ماضية وقادمة، لإنتاجه الغزير في الرواية، التي تحول بعضها إلى مسلسلات وأفلام، وفي مقدمتها بين القصرين، السكرية، وقصر الشوق.
مشاهد الأسى والحزن تعلو الوجوه التي أعرف الكثير منها، من مسؤولين وأدباء وكتّاب وفنانين ومحبين، جمعهم حبهم وتقديرهم للعبقري الذي سال قلمه بحبر الواقع المصري.
ودّعته مصر بجنازة تليق بـ "أم الدنيا" التي خرّجت الأدباء والعظماء والزعماء، والتي أنجبت طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم ومحمود السعدني وأمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم وأحمد رامي وأم كلثوم وغيرهم من الأدباء والزعماء العظام، وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر.
ونجيب محفوظ "الظاهرة" لم يمت ولن يموت، بتأثيره الذي شمل أجيالاً كاملة، ليس في مصر وحدها، بل على امتداد الوطن العربي والعالم، وترك خلفه تراثاً عظيماً من أجمل الكتب والروايات والمسلسلات والأفلام، وتلامذة كباراً يخطوا بعضهم مقتفياً أثره إلى عالم النجوم.
تلامذة أحبوه وأحبهم ورافقوه حتى آخر لحظة من حياته بوفاء شديد، ومنهم مجموعته المميزة التي اعتادت اللقاء كل ثلاثاء في "فرح بوت"، اليخت الجميل الراسي على ضفة النيل، الذي تحول إلى منتدى فكري ضمّ أسماءً كبيرة، كيوسف القعيد وجمال الغيطاني وعبد الرحمن الأبنودي، وغيرهم من الأدباء الكبار الذين تعرفت عبرهم إلى مبدع "أولاد حارتنا".
كان آخر لقاء لنا في الثلاثاء الأخير من أبريل 2006، وكان جمال الغيطاني يومها أذنه التي يسمعنا بها، إذ إنّ الراحل الكبير الذي تجاوز التسعين وبقي مصراً على الحضور والمشاركة بشجاعة في المحافل الأدبية، كان محتاجاً لعون تلامذته للتواصل مع الآخرين، خاصة بعد الحادث البشع الذي تعرض له وإصابته في عنقه ويده.
فاجأتني قدراته المتجددة التي قادت الحديث الغني الذي شمل الأدب والسياسة والتاريخ، وفاجأني اهتمامه ومتابعته للتطورات والأحداث الجارية، وأحببت كلامه عن ذكرياته في اليمن التي زارها مدفوعاً بحسّه القومي لمؤازرة ثورة 26 سبتمبر، التي قدّم لها الرئيس جمال عبد الناصر كل أشكال الدعم والتضحيات من خيرة أجناد الأرض من أجل الدفاع عن الجمهورية، وحدثنا عن انطباعاته الجميلة عن مدينة تعز وجبل صبر وجمال طبيعتهما.
ابتسم الأستاذ نجيب محفوظ وهو يصف جمال ملابس النساء الشعبية في تلك المنطقة، التي كانوا يسمونها "دمس" لشبهها بالنسيج الدمشقي "دامسكو"، ما ذكرني بالقصيدة المغناة للشاعر عبد الله عبد الوهاب الفضول وغناء أيوب طارش:
طاب البلس طاب وا عذارى طاب
هيا صبحونا بلس
محلا بنات الجبل حينما
يطوفين المدينة بالثياب الدمس
ولم يخلُ الحديث من حسّ الدعابة وسرعة البديهة، حينما علّق أحد الحضور بمكر، ممازحاً: "هل أعجبتك تعز المدينة أم بناتها يا أستاذ؟"، فردّ الرجل العجوز مبتسماً: "بل عيون بناتها"، وضحك الجميع.
وكان ممكناً أن يطول الحديث المشوّق، لولا أنّ "الرجل الساعة"، كما يدعوه أصدقاؤه، شعر بانتهاء الوقت بساعته البيولوجية الدقيقة، وأومأ إلى تلامذته الذين سارعوا إلى الوقوف ومرافقته إلى سيارته. وكان يحدد وقت التدخين، ووقت الذهاب إلى الحمام، ووقت الانصراف، وكان جمال الغيطاني قد نبهني إلى ذلك وهو يشير إلى ساعته قبل دقائق من هذا التوقيت، بل إنه كان أكثر دقة من الساعة، وهو يتصرف وكأنه يشاهد الساعة، ولم أشاهد في حياتي رجلاً مثله، وفي هذه السنّ، بهذه الدقة.
الجنازة انتهت، ورقد نجيب محفوظ بسلام في مثواه الأخير، لكنه من أكثر الأحياء حياةً، وباقٍ بعد فناء العديد من الأجيال القادمة، وسيبدأ منذ اللحظة حياة خلود العظماء."