الأبعاد الخطيرة "الجيوسياسية" لمنع اليمنيين من العمل في السعودية
هل استسلمت السعودية أمام الواقع الذي يفرضه الحوثيون وإيران في اليمن كما استسلمت أمريكا أمام الواقع ا...
وصلت الى كاونتر ختم الجواز في محطة قطار "يوروستار" الدولية بباريس؛ سألتني الموظفة عدة أسئلة قبل ختمها للجواز؛ بدوت لها غريب؛ مسافر الى لندن وليس لديه حقيبة؛ فقط كيسين صغيرين؛ اضافة الى وجود الكثير من الفيز للسعودية؛ وكوني من اليمن البلد الذي بات شعبه بالكامل وبدون استثناء ضمن قائمة ترامب للإرهاب؛ ولذا مُنعت على مواطنيه الفيزة لأمريكا.
بصعوبة كنت أجيب عليها؛ لعدم تمكني من الإنجليزية، طلبت مني الإنتظار في مكان قريب وأخذت الجواز الى حيث لا أدري؛ وبعد عشر دقائق أعاده لي أحد رجال الأمن وقال لي انه يمكنني المرور.
مررت وراء الناس؛ متفهماً بالطبع مخاوف سلطات الدول الأوربية عموماً مننا كعرب وكمسلمين؛ فما فعله الإرهاب بهم ليس بالقليل؛ ونسبة ٩٩٪ ممن نفذوا تلك العمليات مسلمين؛ الدين القادم من جزيرة العرب مسقط رأس أسامة بن لادن وأشهر قادة القاعدة في العالم؛ صحيح أن أجهزة مختابراتهم ومغامراتهم السياسية والعسكرية في منطقتنا ساهمت في صناعة الظروف المناسبة لنشوء تلك المجموعات المتطرفة؛ بل ودعمت بعضها في دورة الصراع العالمي؛ لكن ذلك لا يبرر كل الإرهاب الذي نصدره للعالم ونبيعه كذلك في أسواقنا المحلية؛ والذي يجب علينا البحث عن جذوره من خلال مقاربات أخرى؛ بعيداً عن نظريات المؤامرة؛ وأولها مراجعة التراث الديني وبالأخص ما نُدرسه للأطفال في المدارس وللشباب في الجامعات؛ وما يتفوه به خطباء الجمعة في المساجد وغيرها من المنابر الدعوية والإعلامية.
لم تؤذيني نظرات بقية رُكاب القطار عندما تأخر استجوابي على الكاونتر؛ ولا عندما طلبوا مني الإنتظار في مكان قريب؛ فليسوا السبب بل نحن ودُولنا ومجتمعاتنا وديننا الذي صدرنا لهم كل هذا الخوف؛ وكلما حاصروه ابتكر الإرهابيون وسائل بشعة لتنفيذ عملياتهم وآخر ابتكاراتهم كانت دهس المارة في الشوارع.
أنا إبن دين لا يتورع بعض معتنقيه من قيادة شاحنة على المئات من البشر وسحقهم تحت عجلاتها قائلين "الله أكبر ولله الحمد"؛ لذلك علي أن أتوقع كل شيء في المنافذ الأمنية للمطارات وسكك الحديد والموانئ.
وصلت للندن؛ خرج الناس من الصالة تلو الأخرى أفوجاً كالحجاج؛ لمحت رجل أمن وبجانبه شرطية؛ أحسست أنهم ينتظراني؛ وأن الشرطة الفرنسية أبلغتهم بقدومي؛ فلا أحد من اليمن غيري؛ تحاشيت النظر لهما على أمل أن يخيب ظني؛ لكن الضابط تقدم وأشر لي بأدب ولطف كبير بالخروج من فوج يتدفق بالمئات؛ كلهم مروا الا أنا؛ طلب الشرطي وزميلته مني بعد ان عرضا علي بطائقهما الأمنية التوجه معهم الى حجرة خلفية مخصصة لتفتيش الأغراض؛ وهناك بدأوا في استجوابي.
كانوا لطفاء للغاية؛ يبررون كل خمس دقائق ذلك الإجراء؛ ويطمئناني أنه لن يطول؛ خوفاً على مشاعري والتزاماتي؛ وأنا بدوري كنت أشفق عليهم؛ من الخوف أن يقع أحدهم في خطأ السماح بمرور إرههابي من أمامه فيتحمل مسؤلية جسيمة أمام جهازه الأمني؛ والأهم أمام نفسه وضميره إذا ما استقل ذلك المشتبه به لاحقاً شاحنه ومر بها على أجساد المئات من أبناء بلده؛ أو غرس سكين في جسد عدد من أفراد الشرطة أو نفذ عملية ارهابية من التي نسمع عنها بين الحين والآخر.
كانوا يستعجلون إجراءاتهم حتى لا يؤخروني وأنا أقول لهم: لا مشكلة خذوا راحتكم؛ لا تتركوني الا بعد أن تطمئنوا تماماً؛ لا أريد أن تبقى ذرة شك في قلب أحدهم؛ قد تؤرقه لاحقاً.
الأسئلة كانت كثيرة؛ عن الماضي والحاضر؛ وعندما عرفوا أني من ذمار؛ جنوب صنعاء؛ سألني الضابط: هل أنت سني أم شيعي؛ قلت له أني لم أعد أؤمن بكل خرافات الأديان؛ قال هل أنت ماركسي؟؛ قلت له يمكنك القول أني يساري علماني؛ ولا أدري هل كان كل كلامي مفهوم؛ فالشرطية التي يفترض أنها تولت الترجمة لا تجيد العربية كثيراً؛ فكنت أشرح بعض العبارات بلغة الإشارة مدعومة ببعض كلمات من انجليزيتي الركيكة؛ رأيت في عينيهم سؤال عن مذهبي قبل أن أصل لتلك القناعات؛ فلا يعقل أن يولد مسلم في اليمن دون أن يكون له مذهب؛ فقلت لهم أنا زيدي المذهب بالولادة؛ فقال هل تعني أنك حوثي؛ أجبته أن الحوثية ليست الزيدية؛ بل شيء آخر يطول شرحه.
أخذ الشرطي جوازي وذهب؛ وتركني لزميلته التي بدورها أكملت الأسئلة؛ عني وعن اسرتي وأولادي ومكان اقامتي وماذا وأين اعمل وأسكن؛ وأنا أتصفح تلفوني وأريها منزلي في الأردن؛ وصوري مع أولادي؛ وظهرت صورة لي وأنا في المسبح كذلك؛ فقلت في نفسي؛ يا محاسن الصدف؛ سيدركون الآن أن لدي ما أنا عائد له؛ لدي جنتي الصغيرة التي لن أقتل حتى ذبابة لأغادرها على أمل الدخول لجنة الحوثي أو الزنداني أو بن لادن المخضبة بدماء الكثير من الأبرياء.
عاد الضابط؛ وحدثني وكأنه اكتشف كذبة في كلامي السابق؛ أراني موضوع منشور بالإنجليزية ظهر فيه إسمي ملحوقاً بوصفي حوثياً؛ قلت له الحوثية ليست مذهب كما أخبرتك؛ تحالفنا كلنا معها في مرحلة من المراحل لاسقاط النظام في بلدنا؛ ثم حدث ما حدث.
خلال غيابه يبدوا أنه زار حساباتي على مواقع التواصل ومدونتي؛ وتابع بعض نساطاتي ولقاءاتي السياسية؛ بعد أن أخبرته أني اعمل حالياً في الكتابة والسياسة المتعلقة بالأزمة اليمنية؛ عقب خروجي من اليمن.
نظر الى كيس كنت أحمله؛ وبدت عليه رغبة وفضول ليعرف ما بداخله؛ فتحته؛ فوجد علبة "بطاطس برنقلز" والكثير من الشوكلاته؛ عرضت عليه أن أفتح الكيس الآخر فأشار لي أنه لا داعي؛ يبدوا أن البطاطس والشوكلاته شفعا لي؛ وتأكد أني مسالم؛ وبالأخص أني كنت مبتسم خلال جلسة التحقيق؛ ومتعاون جداً؛ وليس علي اية علامات للقلق ولا حتى للتذمر؛ بدوت مستمتع جداً في البقاء معهم؛ بينما كان يبدوا عليهم القلق والاستعجال؛ من خشيتهم من أي خطأ أو إهمال في أداء واجباتهم؛ أو من أنهم اشتبهوا في الشخص الخطأ؛ فهم يدركون معنى تأخير إنسان عن عمله؛ وإخراجه من بين الناس حيث ينظرون له كمشتبه به.
في الأخير سلم لي الجواز معتذراً هو وزميلته عن تأخيري؛ قلت لهم لا عليكم؛ فما قمتم به طبيعي وأنا أتفهمه؛ وهذا واجبكم لحماية أمن بلدكم ومواطنيكم؛ فما فعله بعضنا فيكم ليس بالقليل؛ وقلت لهم: اذا تذكرتم شيء يمكنكم الاتصال بي واستدعائي مجدداً؛ بعد أن أخذوا عنواني ورقم تلفوني البريطاني؛ أعطاني الضابط مطوية عليها شعار شرطة "سكوتلانديارد" فيها تعليمات سأترجمها لاحقاً لأفهم ما بها؛ ودَّعاني بابتسامة عريضة والكثير من الخجل.
انطلقت بعدها الى المحطة؛ متوجهاً لفندقي؛ حيث توجد حقائبي التي تركتها عند مغادرتي لندن الى باريس قبل أيام.
ركبت المترو لوحدي هذه المرة؛ بعد ان رفضت ان يستمر أصدقائي في التناوب على استقبالي وإيصالي الى مختلف الأماكن وكأني "كرتون" او رسالة من شركة "دي اتش ال" DHL.