حرب بين الحروب
"لن نسمح بتهديد تفوقنا العسكري في المنطقة"، قال مسؤول عسكري إسرائيلي. يلتقي البلدان، إسرائيل وسوريا،...
بيتزا الكنبة هي تلك القطعة التي يعثر عليها الطبيب المناوب ملقاة تحت الكنبة وقد مضى عليها في مكانها أيام أو أسابيع. في ليالي الشتاء الطويلة تمتلئ الطوارئ بالمرضى، وقد يحصل المناوب على دقائق ثمينة ليسترخي فيها. في غرقته يتذكر الجوع وينظر إلى الساعة المعلقة فيدرك الوقت الوطيل المتبقي حتى الصباح. يدس يده تحت الكنبة فتقع على رزقه الثمين!
لدي تجارب كثيرة في طوارئ المشافي، غاية في الإثارة وبعضها لا يمكن تصديقه. بعد أول تجربة لي في طوارئ قصر العيني كتبت رواية "كود بلو"، ثم أعدت كتابتها في العام ٢٠١٤ بعنوان: هروب الفتى عاري الصدر.
في شتاء ٢٠١٦ انتقلت مؤقتاً إلى مستشفى آخر في مدينة إيسن، يبعد عن مكان عملي بضعة كيلومترات. كان الهدف من الانتقال الذي استمر شهرين: التدريب في طب الأوعية الدموية التداخلي (علاج الشرايين المتضيقة والمسدودة في أجزاء الجسم خارج القلب. هذا "الفن" اعترفت به حتى الآن ٩ دول من حاصل ٤٨ دولة أوروبية كتخصص مستقل). في المستشفى الجديد التحقت بكشف المناوبات، أربع إلى ست مناوبات في الشهر، كل مناوبة ٢٤ ساعة. تحاول ألمانيا تدريجياً إلغاء هذا النوع من المناوبات الطويلة واعتباره مخالفاً للقانون وخطراً على حياة الأطباء والمرضى.
ومرة جاء شاب ألماني في العشرينات من عمره إلى الطوارئ. كانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف فجرا. الشاب يقف أمامي ويرتجف، ودخلنا في حوار مثير.
قال: بعد ساعات سألعب الماتش النهائي، بطولة غرب ألمانيا للملاكمة.
ـ ملاكمة؟ ولكنك، سامحني، هزيل البدن بالنسبة لهذا النوع من الرياضة.
ـ لا يهم وزن البدن، ما يهم في اللعبة هو اللياقة.
فجأة وضع يده على عينه اليمنى وأخرج عيناً زجاجية، وقال:
ـ وبعين واحدة أيضاً. انظر.
تراجعت إلى الخلف. سألته: وكيف تمارس اللعبة وأنت بهذا الوضع؟
ـ قلت لك ما يهم هو اللياقة، إحساسك بالخطر وقراءتك لنوايا الخصم.
أخبرته أن فحصه الإكلينيكي على ما يُرام، وكذلك الفحوصات الأخرى [تخطيط القلب، الحرارة، التنفس، غازات الدم، ضغط الدم وغيرها]
سألته أن يعيد شرح شكواه الطبية مرّى أخرى، ربما أجد ثغرة ما [الطبيب هو محقق سرّي]
قال الشاب: قبل ساعات التقيت صديقة منافسي في مدينة إيسن. أخذتني إلى بار صغير وشربنا. بعد نصف ساعة أحسست برجفة. ثم بعدها بقليل وصلتني هذه الرسالة على واتس أب
[أراني رسالة على واتس أب مرسلة من طرف يحمل اسم أنثى. تقول الرسالة: لقد وضعت لك بعض المخدرات في المشروب. الآن أمامك خياران إما أن تنسحب ونكسب نحن هذه البطولة، أو تخضع للفحص الطبي وتخسر مستقبلك كله. هذا درس لك وعليك أن تتعامل معه بحذر].
أخضعناه لفحص مخدرات سريع، وكانت النتيجة موجبة. قمت بالاتصال بمركز السموم في مدينة هامبورغ في أقصى شمال الجمهورية وسجلنا الحالة وتحدثنا عن الإجراءت التي سنمضي فيها. قمنا بإدخال المريض إلى واحدة من وحدات المستشفى لمراقبته إكلينيكياً.
الساعة الثامنة صباحاً بدأ الاجتماع اليومي الذي حضره كل أطباء القسم. قمت بعرض الحالات التي عاينتها أثناء ساعات الليل. وعندما وصلت إلى هذه الحالة الطبية قال أحد الأطباء: أبلغوني من الوحدة أنه هرب من المستشفى تمام السادسة، أي بعد ساعتين تقريبا.
ـ هرب؟ تساءلت مستغرباً.
بعد الاجتماع رحتُ إلى القسم، ووجدت مشكلة كبيرة. قال المريض الذي كان ينام في الغرفة نفسها، وكان كبيراً في السن، إنه فقد محفظته وفلوسه وكل أشيائه المهمة كالساعة وغيرها.
دخلت إلى الملف الإليكتروني للمريض، ووجدت قصة أخرى. فقد أدخل الرجل إلى واحدة الأعصاب في المستشفى قبل ستة أشهر بعد أن روى لطبيب الطوارئ قصة تقول إنه لاعب كرة قدم محترف، وأنه فقد وعيه في واحدة من التدريبات عندما اصطدم رأسه برأس لاعب آخر. في تلك "الإقامة" القصيرة غادر الشاب المستشفى دون أن يلمحه أحد، وغابت معه أشياء ثمينة تخص آخرين.
كان الشاب في المرتين مقنعاً ومحترفاً. وقد طور آلية ذكية وخطرة لاختراق الستار البيروقراطي في العمق وتسجيل الأهداف. وبالطبع فهو يعرض نفسه على الأطباء في أوقات "بيتزا الكنبة"، حيث الأشياء تدخل في بعضها، كل الوجوه تتشابه، وبالكاد يستطيع الطبيب تذكر شيء.
ما الذي جرى له بعد ذلك؟ لم أشغل نفسي بالسؤال فهو يقع خارج مداراتي.
لماذا أدون هذه القصة؟ لا أدري، تذكرتها البارحة فجأة..
نهاركم سعيد ..