حرب بين الحروب
"لن نسمح بتهديد تفوقنا العسكري في المنطقة"، قال مسؤول عسكري إسرائيلي. يلتقي البلدان، إسرائيل وسوريا،...
كأنه لم يفعل شيئاً .. أو كما لو أنه كان أحداً سواه. ولكن لماذا فعل ذلك؟
على إثر "منشور معياد" انطلقت موجة كبيرة من التعليقات المحترفة والشعبية. نظر إليه البعض كنبي وآخرون كقديس في الآن نفسه، وكُتب الكثير عن معياد رجل الدولة، ومعياد اللص. حضر حزب الإصلاح كموضوع ذي صلة، وانقسم الناس حوله كالعادة. كان واضحاً أن معياد يشير إلى أمر غامض وغير اعتيادي، غير أن كثيرين لجأوا إلى استخدام "الإصلاح" كآلة تحليل بسيطة بمقدورها تفكيك كل غموض البلد. في اليوم التالي احتفى مثقفو وكتاب الإصلاح بالبراءة، وأعادوا ضرب الكرة إلى الجانب الآخر. أما عدنان العديني، أهم مثقف إصلاحي في الوقت الراهن، فتحدث عن "ليلة التزوير" التي انتهت بانتصار الحقيقة.
في "منشوره" لوح معياد بالاستقالة فيما لو رفضت المحافظتان "مأرب والمهرة" ربط فرعي البنك فيهما بالمركزي في عدن. لكن حديث الرجل عن "حملة موجهة" ضده كان، كلياً، خارج السياق. ثلاثة عناصر مهمة لا بد وأن تلفت الانتباه وتثير الأسئلة إذا حضرت معاً: التلويح بالاستقالة، الإشارة إلى الإصلاح كخصم، الحديث عن حملة موجهة. هل يواجه معياد صعوبة في التعامل مع بعض المسؤولين المنتمين لحزب الإصلاح، محافظ مأرب مثلاً؟ في الواقع هو يعمل مستقلاً عن دوائر تأثير حزب الإصلاح كما تقول المعلومات. فالرجل يعمل في حقل يسيطر عليه رجال المؤتمر الشعبي العام من الذين انتقلوا من تأييد الحوثيين إلى تأييد الشرعية. أيضاً يعمل العيسي على تذليل الصعوبات أمامه. هؤلاء الرجال يعرفهم معياد من صنعاء، وهم من جماعته:
ـ نجيب العوج/ وزير التخطيط. نبيل الفقيه/ وزير الخدمة المدنية. حافظ معياد/ محافظ البنك ومستشار رئيس الجمهورية. حاشد الهمداني/ محافظ كاك بنك. محمد زمام/ المحافظ السابق. فارس الجعدبي/ سكرتير اللجنة الاقتصادية ... إلخ. أسماء كثيرة انتقلت إلى معسكر "هادي" بعد مصرع صالح في صنعاء. من المتوقع، نظرياً، أن يشكل هذا الانتقال إضافةً إلى الوزن النوعي للحكومة اليمنية، وهو من الأخبار الجيدة على كل حال.
جاء بيان معياد بعد الاتفاق مع سلطات مأرب حول "الربط"، وفقاً لما نشره الرجل نفسه بعد ساعات من "المنشور". في اللقاء الرباعي الذي حضره شخصان من الرئاسة إضافة إلى المحافظين، البنك ومأرب، جرى الاتفاق حول كل ما يخص ربط البنكين ببعضهما. انتهى اللقاء بالتوقيع وتحرك "مهندس الربط" بين الرياض ومأرب وعدن، وبدا أن الأمور تجري بأقل قدر من الاحتكاك.
إليكم هذه الحقيقة صعبة التصديق:
عارضت رئاسة الجمهورية، لفترة، ربط البنك في مأرب بالمركز في عدن. لماذا فعلت ذلك؟ يخشى هادي من كل شيء في عدن، وأكثر ما يخيفه هو السلطات "الإماراتية" التي تحكم المدينة ولديها عيون في كل زقاق. في الأعوام القليلة الماضية استخدم هادي "أموال مأرب" لإدارة بعض الشؤون العسكرية والإجرائية التي تعنيه أكثر من أي شيء آخر، على سبيل المثال: دعم الألوية الرئاسية التي يرفض التحالف تزويدها بالذخيرة. حاول هادي، بمساعدة رجله القوي "العيسي"، رعاية معسكراته ودعمها بحذر، فهو يعرف خطورة ما يفعله. فقد سبق له أن شاهد بعينه ما فعلته "الإمارات" بمعسكراته في عدن عندما تجاوزت قداراتها مستوى معيناً.
لم يصبح معياد الرجل بالغ القوة بعد. فهو لا يزال يتحرك خارج مداراته التي أسسها في صنعاء. المؤتمريون الذين يعملون بالقرب منه لا يزالون، مثله، غرباء نسبياً. في دولة هادي يصبح الجميع غرباء، بيد أن غربة معياد أصبحت نسبية ولذلك أسباب. ذلك ما جعله يستجلب تعاطفا شعبياً من خلال إشارته إلى "حملة ممنهجة" هي، في الحقيقة، ليست أكثر من بضعة تدوينات مجهولة. ليس هادي بالرجل المفضل لدى معياد، كما يصرح للمقربين منه. في الواقع: لدى الرجل انطباعات عن هادي هي أكثر سلبية من ذلك. ومع ذلك فقد نجح في تشكيل صداقة متينة مع رئيس الجمهورية دي فاكتو/ الفعلي: العيسي. ينظر معياد إلى "معين عبد الملك" فيجده رجلاً ضعيفاً وبلا تاريخ فيسيل لعابه. لا بد وأن الرجل يتطلع لما هو أبعد من البنك، مستنداً إلى تلك الحقيقة التي وصفها مسؤول حكومي في حديث ثنائي بالقول [الشرعية مفرغة من الأذكياء بسبب مخاوف هادي وتحفظ الإماراتيين].
لا يمكن الاستهانة بما يعرفه معياد ويقدر عليه سواء فيما يخص عمله أو طموحاته. وقد أرسل تيلغرافاً مهمة قبل ليلتين إلى الجهة التي يصبو لكسب رضاها معتقداً أنها عنصر حسم فيما يخص "مارشه" نحو الأعلى. في منشوره ذاك قدم نفسه كمنقذ للاقتصاد وخصم شرس لحزب الإصلاح في الآن ذاته. قد يكون حافظ معياد بطيئاً بعض الشيء لكنه الرجل الذي يعرف الطرقات القصيرة.
عاد معياد واعتذر عن سوء الفهم، وأكد أن مسألة بنك مأرب سبق أن حسمت. إلا أنه لم يعد للحديث عن "المهرة" ولا محافظها.
ولكن، لحظة واحدة: ما الذي يجري في المهرة؟ ولماذا لم يعد الرجل إلى ذكرها؟
قال مسؤول حكومي توجهت إليه بالسؤال صباح اليوم إن محافظ المهرة يتصرف، وفقاً لهواه، بما تقديره ٣ مليارات ريال يمني في الشهر. انتعشت المهرة في السنوات الماضية وأصبحت واحدة من أهم بوابات مرور السلع والبضائع، على وجه الخصوص مع التعطيل المستمر الذي يمارسه التحالف لموانئ اليمن البرية والجوية.
باكريت هو محافظ المهرة، وهو شاب ولد في العام ١٩٧٥. من هو باكريت؟ وفقاً للتحقيق المثير الذي نشره "الموقع بوست" في شهر مارس الماضي عن محافظ المهرة فنحن أمام شخصية غاية في التركيب والخطورة.
بدأ باكريت حياته نهاية التسعينات معلما لكنه غادر حقل التعليم مفصولاً بعد ستة أشهر. انتقل بعد ذلك للعمل في تزوير الشهادات والوثائق وامتلك عدداً متنوعاً من الأختام. يقول تحقيق "الموقع بوست" إن الرجل غادر تلك المهمة وعمل في ما هو أكثر خطورة: تشكيل عصابات اختطاف تركز على أبناء الأسر الميسورة. كانت عمليات الاختطاف تلك تأخذ نهاية سعيدة في العادة بعد وساطات يقوم بها باكريت، بموجبها يطلق الخاطفون أبناء القبائل نظير مبالغ مالية كبيرة. واحدة من تلك العمليات كادت تودي بالرجل عندما عرف أهل المخطوف حقيقة اللعبة فتعرض باكريت لوابل من الرصاص نقل على إثرها إلى عمان للعلاج، ٢٠١٣. بيد أن تجارة السيارات كانت هي الأكثر أثراً في حياته. من خلال تلك التجارة، التي سرعات ما تحولت إلى تهريب، استطاع أن يبني علاقات مع الداخل والخارج، على وجه الخصوص: السعودية. فتحت له "السيارات" الطريق إلى صداقة المهربين. مع الأيام سيصبح واحداً من أكثرهم مهارة، الأمر الذي دفع وزير الدفاع الأسبق "م. ناصر" إلى تعيينه رئيساَ للجنة مكافحة التهريب في مأرب. تنقلت أنشطته من تهريب المخدرات ـ وفقاً للتقرير ـ إلى تهريب الأسلحة للحوثيين، وسبق أن فشلت إحدى عمليات التهريب تلك وعرف الضالعون فيها، ثم وضعت طي النسيان. راكم باكريت أموالاً هائلة مكنته من استصدار حكم يصير بموجبه "شيخ مشائخ المهرة"، الأمر الذي دفعه لاشتباك طويل مدى مع الأسر المشيخية العريقة في المحافظة. غير أن تلك الصفة لم تمنعه من أن يتقدم بطلب انضمام إلى مجلس التضامن الوطني الذي أسسه حسين الأحمر في العقد الأول من الألفية. بقي الرجل "شيخاً" داخل مشيخة الأحمر حتى سبتمبر ٢٠١٤. عشية دخول الحوثيين صنعاء أعلن استقالته من تجمع آل الأحمر. وبعد أربعة أشهر، يناير ٢٠١٥، سافر إلى صنعاء على متن طائرة عسكرية ليحضر الإعلان الدستوري للحوثيين. وعده الحوثيون باستخدامه الاستخدام الأمثل، إلا أن ثلاثة أشهر فقط كانت هي الفاصلة بين الإعلان الدستوري الحوثي وعاصفة الحزم. قفز الرجل إلى العاصفة، وصار صديقاً للسعوديين.
ينظر السعوديون إلى المهرة نظرة شديدة الخصوصية، فهي الباب الذهبي للمملكة على المحيط. وهي طريق الهروب في أي حرب مع إيران.
في شتاء العام ٢٠١٧ أصدر هادي، على مضض، قراراً بتعيين باكريت محافظاً للمهرة، ثم راح يعتذر لمشائخ المحافظة الذين صارحوه برفضهم قائلاً إنه خضع للإملاء السعودي ولم تتبق في يده من حيلة. في يناير ٢٠١٨، بعد أقل من شهر من تعيينه محافظة للمهرة، اتخذ باكريت أول وأخطر قراراته: إلغاء المؤتمر الاستثماري الدولي الذي سعى سلفه "كده" لعقده في المهرة. كان سلفه قد شكل لجنة تحضيرية راحت تتواصل مع الدول والشركات على مدى قرابة عامين، وضعت البرامج وحددت الفرص ودرست الإمكانات ووضعت الآمال. وعد "كده" أبناء محافظته بمشاريع وموانئ وأسواق وفرص، وقبل أن تختبر تلك الوعود جاء باكريت وشطب كل شيء عبر منشور على فيس بوك.
لا يزال باكريت في عمله، وقد حاز رضا السعوديين، وبين حين وآخر يقول جهازه الإعلامي إنه تعرض لمحاولة اغتيال. هو بحاجة لتلك المحاولات كما أنبأته خبرته الطويلة في هذه الدنيا، فهي من الأشياء الحميدة التي تعزز سلطته، تغسل ذنوبه، وتسوق عنه الرياح بعيداً.
قال حافظ معياد إن هذا باكريت يرفض ربط فرع بنك المهرة بالبنك المركزي في عدن، وأن أجهزة الدولة لا تعلم شيئاً عن دخل واحدة من أنشط المحافظات اقتصادياً. أما المعلومات التي توفرها الحكومة فهي تتحدث عن "عبث الرجل" بأكثر من أربعين مليار ريال في العام، على أقل تقدير. سرعان ما نسي معياد ما قاله، نسي جميعه وكأنه سواه، أو كأنه لم يقل شيئاً. في الواقع: كأن العالم يحمل ذاكرة أسماك.
الموجة التي هاجت قبل يومين راحت تجتاح مأرب ومحافظها العرادة، ذهبت في الطريق الخطأ. أما العرادة فيمكنه قول التالي: كان فرع البنك المركزي في مأرب هو البنك الوحيد الذي قطع علاقته بصنعاء عندما كانت كل الجمهورية، ببنوكها وجيوشها، مسلمة بسلطة عبد الملك الحوثي. حتى هذه الحقيقة ذهبت، مثل كل شيء، في طريق النسيان.