حرب بين الحروب
"لن نسمح بتهديد تفوقنا العسكري في المنطقة"، قال مسؤول عسكري إسرائيلي. يلتقي البلدان، إسرائيل وسوريا،...
د. مروان الغفوري
نعلم جيداً أن انهيار مشروع الدولة يفتح كل أبواب الشرور. من الجيد أن الأمور لا تزال عند هذا الحد: عصابات محدودة تعتدي على عمال مساكين لا علاقة لهم بما يجري. الإدانة "الجنوبية" لتلك الأفعال أكثر غزارة من تأييدها، وهي ما يهم. طفت بصفحات الناشطين الجنوبيين المشهورين على تويتر لأشكل فكرة عامة عن الموقف الجنوبي. وجدت، فقط، شخصين شهيرين حرضا على "العمال الشماليين" علانية: أحدهما واسمه عمر بن فريد، يعمل متحدثاً باسم الانتقالي في أوروبا، والآخر يدعى منصور صالح، ويعمل نائباً لرئيس الدائرة الإعلامية للانتقالي. ثمة شخص شارد اسمه نبيل الصوفي، كان سكرتيراً صحفياً لصالح، حرض على العمال والمقيمين الشماليين في عدن. عدا هؤلاء الثلاثة لم أعثر على أي تحريض. هناك صمت واسع، إدانة مرتبكة، إدانة صريحة، وإنكار. يمكن تفهم الصمت، بالطبع. ثمة درجة أخرى أعلى من الصمت وهي إنكار ما يجري، والقول إنه لم يحدث. هذا الإنكار هو في نهاية المطاف إدانة لمثل تلك الجرائم، أو رفض لها. قرأت خطاب لخشع، نائب وزير الداخلية، الموجه إلى مدير أمن عدن، وفيه أوامر واضحة بسرعة تسيير الدوريات في كل العاصمة واحتواء تلك الموجة. غرق البلد في الفوضى، وكان ممكناً أن ينهار المشهد إلى ما هو أسوأ. لذا دعونا نزعم أن فوضانا لا تزال في الحدود الآمنة!
دروس مستفادة من المشهد:
١. الأحداث محصورة داخل مدينة عدن، لا في كل الجنوب. عدن كوزموبوليتانية وتخص كل الناس، حتى إنه يصعب تحديد "المواطن العدني التاريخي". من أبين إلى المكلا لم تسجل مثل تلك الجرائم. وقعت الأحداث الكريهة في عدن، هذا يعني أنها حدثت فقط في عدن. ومع حجم الإدانة الجارف لما وقع من داخل عدن نفسها فإننا أمام فعل في الهامش، هامش حياتنا. لسنا بحاجة إلى باب جديد للجحيم. لقد فتحنا ما يكفي من الأبواب.
٢. كان واضحاً أن القوات التي استهدفها الهجوم الحوثي أنشئت لتكون بمستوى "شركة أمنية" لا جيشا قادراً على حماية نفسه وحراسة الآخرين. أي أنها قوات قادرة فقط على إلحاق الأذية بالذين لا يملكون سلاحاً. هذه واحدة من الفخاخ التي خلفها التحالف وراء ظهره.
٣. بعد خمسة أعوام من الحرب أصبح الحوثي "سيد الأجواء" في كل اليمن. هذه فضيحة مدوية للتحالف، وهي ما ينبغي يفتح باب الأسئلة الكبيرة.
٤. شاهدنا ثلاث عمليات عسكرية كبيرة بشكل متزامن: القاعدة، داعش، الحوثي. ربما كان علينا أن نطرح الأسئلة حول معنى هذا الهجوم المتزامن.
٥. عشية انسحاب الإمارات من مأرب وصل صاروخ حوثي إلى منزل العرادة. وبعد الحديث عن بداية الانتقال التدريجي لعدن من اليد الإماراتية إلى اليد السعودية .. وصلت اليد الحوثية إلى قائد الحزام الأمني. لم نشاهد اعتقالات للمواطنين "الصنعانيين" في مأرب بحجة أنهم خلايا حوثية، أو تهديد أمني. تبدو المشكلة أكثر تعقيداً من هذه الخفة الفادحة.
٦. تصريحان صادران عن مسؤولين حوثيين رفيعين، أحد التصريحين أكثر أهمية من الآخر:
ـ هادي يشعر بالسعادة لما جرى في معسكر الحزام
ـ الحوثيون يعقدون هدنة منفردة مع الإمارات.
٧. كما قيل في السابق: إذا لم يكن اليمن لكل الناس فلن يكون لأحد.
٨. سألت صحفياً جنوبياً مرموقاً عمّا يجري في عدن فقال:
مشروع القريتين.
٩. الحوثي استعاد زمام المبادرة، وأصبح قادراً على تمزيق خصومه شذر مذر!
١٠. إذا كسب الحوثي المعركة فإن كل المشاريع ستصبح في مهب الريح: اليمن الاتحادي، الجنوب العربي، الجمهورية اليمنية، وحتى جمهورية مأرب المجهرية. ومما نقرأه في الدوريات المحترمة، وبشكل متكرر، هو أن شهية إيران لليمن البحري لا تدانيها شهية. تصنف إيران في خانة "الدول الرسولية"، وهي بنية سياسية ذات نواة إيديولوجية صلبة. لذا تبدو سياستها الخارجية على المدى المتوسط والبعيد مستقرة، ومنهجية. بخلاف جيرانها العرب الذين يديرون سياستهم الخارجية بالتكتيك والانفعالات، ويفسحون للرغبة الانتقامية مكاناً واسعاً. يتنقلون من العدو إلى الصديق بسرعة الضوء، وهم بالأمس يحرسون عدن بالباتريوت وغداً يغلقون الرادار.
١١. السير بمحاذاة عرب الخليج سيعقد المسألة اليمنية أكثر من ذي قبل. وما هو أخطر من ذلك هو افتقار اليمنيين في الوقت الراهن إلى قائد وطني ذي كاريزما جيدة بمستطاعها أن تملأ الفراغ الذي تركه انهيار "مشروع الدولة". نقرأ في التاريخ أن الرئيس الأميركي روزفلت تحدث إلى مساعديه عن رغبة أميركا في السيطرة على المستعمرات الفرنسية، كون فرنسا قد أصبحت في قبضة النازية وقادتها يستنجدون بالقوة الأميركية لاستعادة أرضهم. قال لهم: إن ذلك لا ينبغي أن يحدث دون مقابل. قال له مستشاروه: ولكن من الصعب أن نفعل ذلك في وجود ديغول، إنه صعب المراس، مقنع لمواطنيه، وسيعقد علينا كل شيء.
12. أخطر مما جرى هو ما سيجري. فالعملية التي حدثت يمكن تكرارها مرات ومرات. فما جرى ليس ماسا كهربائيا، بل ضربة عسكرية يمكن تكرارها مستقبلا. إنها لحظة انكشاف وعري أمام المشروع الحوثي، وهذه هي الحقيقة المركزية.