حرب بين الحروب
"لن نسمح بتهديد تفوقنا العسكري في المنطقة"، قال مسؤول عسكري إسرائيلي. يلتقي البلدان، إسرائيل وسوريا،...
اختمرت كل عناصر الحرب الأهلية في لبنان منذ وقت طويل، وقد سبق لذلك البلد أن خاض غمار حربين أهليتين كبريين: 1840 و1860. شكّل النزوح الفلسطيني إلى لبنان، عقب إعلان دولة إسرائيل، واحداً من عوامل اللااستقرار في بلد كان استقراره دائماً على المحك. وحتى الانفجار الكبير للحرب الأهلية، 1975، كانت الأطراف التي ستساهم في الحرب قد تمايزت سياسياً وجغرافياً. محاولة اغتيال الرئيس بيار الجميّل من قبل فاعلين مجهولين دفعت المسيحيين المارونيين، الساخطين على الوجود الفلسطيني، إلى الهجوم على الفلسطينيين وقتل العشرات منهم.
كانت تلك الحادثة، في ربيع 1975، هي الصفّارة التي أطلقت حرباً اختمرت قبل موعدها. بعد ذلك دخلت لبنان في حرب هجينة مميتة يصعب إحصاء وفرز أطرافها: إيران، السعودية، سوريا، السنة، الشيعة، المسيحيين المارونيين، الدروز، إسرائيل، وغير ذلك من التنظيمات الميليشوية الصغيرة والكبيرة التي كان تنقل ولاءها من جهة إلى أخرى. ثمة معلومات تتحدث عن مساهمة أقباط مصر في تلك الحرب، ودولة وأنظمة عربية أخرى. بدا مشهداً قيامياً يحارب فيه الكل ضد الكل، وكان أعقد ما فيه هو استحالة العثور على طريق للخروج.
يُعتقد أن الحرب الأهلية اللبنانية قتلت قرابة 120 ألفاً وشردت أكثر من مليونين. إن أحداً لم يكن بمقدوره، قبل العام 1989، تخيل صيغة سياسية بمقدورها إيقاف تلك الحرب. بعد عقد ونصف من الزمن ذاق كل طرف مرارة الفقدان والخسارة مرات عديدة، وأثخنت الحربُ جميع أعضائها. ومثلما كانت كل المقدمات تبشر بالحرب فإن الخراب الذي تركته خلفها، الوهن والشتات والآلام، كل ذلك كان يدل على نهايتها الوشيكة. نشأت أجيال من اللبنانين لا تعرف سوى الحرب، وأبيدت قرى ومخيمات على بطاقة الهوية، وتساءل اللبنانيون عن "أبناء الذئاب" الذين سيرثون الأرض بما عليها من الأحقاد والثارات، ما الذي سيفعلونه بكل تلك التركة.
وضع اتفاق الطائف، أكتوبر 1989، نهاية لتلك الحرب في لحظة بدت فيها كل الأطراف مستعدة للسلام أكثر من ذي قبل. فقد أعياها حمل السلاح ولم تعد تضع الكثير من القيمة على البارود والكمائن. رتب اتفاق الطائف المسألة اللبنانية في مسودة شاملة بدأت بتحديد هوية الدولة وطبيعتها ولم تقف عند العلاقة مع سوريا، الدولة التي نشرت قواتها في الأراضي اللبنانية وزادت الحرب تعقيداً.
تبدو الحرب اليمنية شديدة الشبه بالحرب الأهلية اللبنانية. فهي حرب هجينة تعيش صراعات على أكثر من مستوى: طائفية، مناطقية، غوريللا، ارتزاق، استعمار، أحزاب، بروكسي، إرهاب، تمرد، ومستويات أخرى. وتشابه المطامع الاستعمارية الإماراتية في اليمن مطامع النظام السوري في لبنان. وقد وجد الإماراتيون في اليمن أحصنة طروادة وقضايا عالقة يمكن استخدامها كغطاء للانتشار العسكري. منح المارونيون اللبنانيون غطاء أخلاقياً للانتشار العسكري السوري، وبقيت المعضلة السورية هي المادة الأكثر تعقيداً في زمن ما بعد الحرب.
تبدو السعودية اللاعب الأكبر في الحرب اليمنية، وهي بعد خمسة أعوام من اشتعالها تخشى أن تكون أكبر الخاسرين. فهي مهددة بمغادرة المجال اليمني، أخطر مجالاتها الحيوية، كلياً مع استقرار الشمال لصالح إيران والجنوب لمصلحة الإمارات كما يعتقد الكاتب السعودي سليمان العقيل. حدث في عدن، في الأيام الماضية، أن تشكيلات عسكرية انفصالية تعمل في خدمة الإمارات انقضّت على مقرات السلطة وقصر الرئيس. استكملت تلك التشكيلات العسكرية بسط اليد على المحافظات المحيطة بعدن، وبهذا تسفر الحرب عن ثلاثة أطراف قوية: الحوثيون، الانفصاليون، والدَّولَجيون [السلطة، البرلمان، والنظام الحزبي].
يقع مركز الثقل للدولجيين في مأرب، للانفصاليين في عدن، وللحوثيين في صنعاء. أما الحرب فتبدو، عملياً، وقد دخلت في السهل. لم نعد نشهد تلك الأيام عندما كانت مقاتلات التحالف تقوم ب200 غارة في اليوم فوق عدن وما حولها، ولا الإيجازات الصحفية اليومية. فضلا عن مغادرة دول عديدة للتحالف وانحساره من تحالف عربي إلى تحالف إماراتي ـ سعودي. وهو تحالف إشكالي معقد عامر بالتناقضات المستعصية. مؤخراً شاهدنا الإمارات تعلن انتهاء الحرب من جانبها، وهو موقف يتناقض مع أبسط ما نعرفه عن فكرة التحالفات.
في تقديري يعيش اليمن اللحظة المناسبة للدخول في "اتفاق طائف" يفضي إلى تسوية المسألة اليمنية من جذورها على نحو يحقق ثلاثة أمور مركزية: إنهاء الحرب ورفع الحصار، حرية التنقل انطلاقاً من وحدة الأرض والشعب، وإعادة الإعمار. يمكن، استنادا إلى تجربة السعودية مع المسألة اللبنانية، إعادة هندسة الحياة السياسية بطريقة تعيد إدماج الحوثيين والانفصاليين في صيغة سلطوية اتفاقية. علمتنا التجربة اللبنانية، من الطائف، أن إذابة الميليشيات المسلحة لصالح جهاز أمن وطني عابر للطوائف والعصبويات هي خطوة أساسية لا بد وأن تحدث مبكّراً في سبيل تحقيق الاستقرار. وأن إعادة الإعمار واستعادة السوق هي الضمانات التي ستجعل وقف إطلاق النار مستداماً.
بالإمكان الدخول في دورة طائف تضع حداً لأسوأ أزمة تعيشها الحضارة المعاصرة. الحكومة الشرعية التي انهزمت في صنعاء وعدن لم يعد في مستطاعها أن تخوض حرباً، فقد حشرت جيوشها في حزام جغرافي بالقرب من مأرب، في أقصى الشمال، وإلى الصحراء في الشرق. كانت قوات الحكومة الشرعية تخوض معارك قاسية، لزمن، حتى تتمكن من تحرير قرية جبلية. في الأيام الأخيرة خسرت عدداً من المدن والمحافظات، ولم يتبق في حوزتها سوى المناشدات والتلويح بمزيد من التدويل. لقد انقلبت الحرب رأساً على عقب وفقدت نظريتها.
الانتصارات الدرامية المبكرة للحوثيين حدثت بسبب تفوقهم العسكري، وامتلاكهم الآلة الثقيلة التي حصلوا عليها من "مخزون صالح". بعد وقت قصير من الحرب أعيد توزيع السلاح على كل اليمن، ولم يعد ذلك العامل الحاسم حكراً في قبضة الحوثيين. يعج الجنوب بالتشكيلات العسكرية والسلاح، تماماً مثل الشمال الحوثي. الدولجيون يملكون قوات مسلحة كثيرة العدد، وتملك واحدة على الأقل من المناطق العسكرية "المنطقة الأولى" تسليحاً ثقيلاً. من غير المتوقع أن يتمكن طرف من تحقيق اختراق درامي في جغرافيا الطرف الآخر. لقد تشظت اليمن على نحو ما عرفناه في كتب التاريخ، وانزلقت إلى عصر الدويلات. بالنسبة للإمارات فذلك وضع مثالي سيمكنها من استغلال ممكناته الاقتصادية كالموانئ والجزر، وقد وجدت لذلك ذريعة سياسية صلبة: رغبة مواطني الجنوب، حيث البحر، في الاستقلال. بيد أن الورطة السعودية لا تزال قائمة، ولإيران قبضة جيدة في الشمال تعرف كيف تستخدمها.
الهدف الذي دفع السعودية لخوض الحرب اليمنية، مستعينة بعديد دول، ينأى كل يوم. أما الغطاء الذي استعملته في سبيل هدفها، الدفاع عن الشرعية السياسية، فقد نزعته الإمارات وداست عليه تحت أقدامها. شاهد العالم العربات الإماراتية تقتحم القصر الرئاسي ومعسكرات "الشرعية".
من الصعب تصديق حقيقة أن هنالك تحالفاً مصيرياً بين السعودية والإمارات، فمثل تلك المصائر لا تنشأ في العادة بين الباعة والتجار، أو بين مستوردي الحرير والقطن. بمقدور السعودية التقاط الكرة ودعوة الأطراف الثلاثة إلى "الطائف" لإدارة عملية نقاش مستفيضة تفضي إلى اتفاق. سبق للسعودية أن فعلت الشيء نفسه في المسألة اللبنانية التي كانت، آنذاك، تعج باللاعبين الدوليين. علينا ألّا ننسى أن جزءاً من التأييد الجماهيري الذي حصل عليه انفصاليو الجنوب مؤخراً هو بسبب خوفهم من أن لا تعرف الحرب نهاية وأن لا تأتي الجمهورية قط. في الطائف، أو غيرها من مدن السعودية، من الممكن تقديم وعد بدولة لكل الناس، يتمتع فيه الفرد بحرية الحركة والتنقل، ويهندس فيه النظام السياسي بطريقة تمنع حدوث الحرب مستقبلاً، أو تقلل من احتمالاتها.