حرب بين الحروب
"لن نسمح بتهديد تفوقنا العسكري في المنطقة"، قال مسؤول عسكري إسرائيلي. يلتقي البلدان، إسرائيل وسوريا،...
وقف طه المتوكل، وزير الصحة في شمال اليمن، أمام البرلمان وتحدث عن وباء كورونا. الوزير الشاب استطاع تقمص لهجة سكان صعدة، لهجة "السيد القائد". تحدث عن الوباء وعن استعدادات حكومته. قال إن "الجمهورية" وفرت لليمنيين 200 جهاز تنفس اصطناعي خلال ثلثي قرن، وأن حكومته وفرت نفس العدد خلال شهر. يبدو أن الرقم صحيح، بحسب ما تصلنا من معرفة من الزملاء الأطباء في صنعاء وغيرها.
المغالطة الوحيدة تكمن في إشارة الوزير إلى "الجمهورية". تلك الدالة جرى تزييفها منذ البداية ضمن تسوية بين ثوريي المذهب الزيدي وملكييه، ونخبة من الجمهوريين النفعيين. ليست الجمهورية هي من وفر لليمنيين 200 جهاز تنفس اصطناعي خلال ثلثي قرن، بل حكام الخفاء الهاشميون. هم أنفسهم من سرّعوا من إنجازهم، وقد صاروا حكام العلانية، وحصلوا على نفس العدد خلال شهر. لم نر، خلال كل حقب الجمهورية المغشوشة، سوى الهاشميين والمذهب، وبقي سائر اليمنيين كما هم الآن: لغلغي، صومالي، إندنوسي، خادم، قبيلي، والريال الذماري بريالين من تهامة [هناك الإنسان الأدنى]. كان ذلك هو شكل الجمهورية التي علينا أن نقاتل لاسترداده.
لقد ذهب المَلِك يوماً ما، قتِل، ولكن الملكية لم تقتل، والإمامة لم تذهب. قتلناه لأنه كان "أحمد" لا لأنه كان الإمام، شنقنا الإمام ولم نشنق الإمامة. وهكذا فقد فتحت صنعاء بابها للإمام الجديد بعد أن تأكدت أن اسمه ليس أحمد.
أسهم نظام صالح بشكل فاعل وعنيف في إعادة إحياء زمن ما قبل 26 سبتمبر، ونجح في ذلك، فالجمهورية كانت تحدياً وجودياً لطموحاته السلطانية. ومن أجل كبح الجمهورية، وهي فاكرة عامة عن شعبية الدولة، فقد استعان بالمهزومين والمندحرين وأعاد لهم مملكتهم الضائعة، ضمن تنافع متبادل ومستدام. إلى أن اختلف مع الهاشميين حول الطريقة الأفضل للدولة في المستقبل: إمامية خاملة ضمن خداع بصري جمهوري، أم إمامية صريحة. إمامية يكون فيها الهاشميون قلب كل شيء، أم إمامية على المنصة، بلا تمويه. نادى صالح، قبل مقتله بساعات، الشعب اليمني للذود عن الجمهورية. في خطابه ذاك قدم آخر تعريفاته للجمهورية: "أما وقد حاصروا منازل أبنائي وأسرتي..". يمكنك أن تجادل حول تلك اللحظات كثيراً، ومن المؤسف أن كل جدل سيكون خارج الموضوع. هناك قفزت الإمامية الصريحة إلى الواجهة بعد أن تخلصت من الإمام الكومبارس. خسر صالح التفويض الهاشمي، وكان لا بد لذلك أن يحدث ضمن شلال تاريخي وصل إلى منتهاه. قتِل حارس الملكية الأمين في مشهد ممل، ومكرر، لا جديد فيه سوى الأسماء..
لو أن الحوثيين سيطروا على واد في تهامة وأعلنوا قيام دولتهم لكانت السخرية العاجلة، والقصيرة، هي الرد الأمثل. لكن الحوثيين سيطروا على صنعاء، واحدة من أقدم حواضر الدنيا، ثم كل شمال اليمن باستثناء بعض المساحات، تزيد أو تقل، في تعز ومأرب. أما وزراؤهم فيقفون أمام البرلمان منذ ستة أعوام ويقدمون إحاطاتهم وتقاريرهم. كما أن الحوثيين لم يعلنوا "قيام" دولتهم، بل حلوا محل السلطة داخل دولة متعينة تاريخياً، اسمها اليمن ولها شخصيتها الاعتبارية. انتقلوا، أيضاً، من طور "العنف المنفلت والشامل" إلى العنف المضبوط، العنف داخل الدولة وليس خارجها. ثم إنهم لم يعودوا الحوثيين منذ زمن، فقد التحق بهم الهاشميون رسمياً [كانوا كذلك في الخفاء]، ثم جرى خلفهم المذهب كما يفعل منذ القدِم. أليسو هم من كتب المذهب؟.
وهي مشاهدة تجعلنا نقول إن الحوثيين انتقلوا من زمن الجماعة الإرهابية إلى مرحلة الدولة الفاشية. قريباً سيتخلى الحوثيون عن لقب أنصار الله فلم يعودوا بحاجة إليه.
من برلمان "اليمن" تحدث وزير الصحة طه المتوكل، قال خمس كلمات:
أنا الدولة،
أنا السلطة،
أنا المشروعية،
أنا الوحيد،
أين المرتزقة؟
وقبل أيام كتب فارس الحميري، الصحفي المعروف، ساخراً:
"تأكدنا أن وزير الصحة اليمني بحالة جيدة وهو في أحد فنادق الرياض".
العرض الذي قدمه المتوكل، اللغة التي استخدمها، المشاعر التي أبداها [أو استعارها]، الحماس والانتباه في ملامحه .. كل ذلك كان لافتا، وقابلاً للتصديق. تبادل اليمنيون كلمته على أكثر من ميديا، فهو الوحيد الذي خاطبهم بتلك الطريقة من مكان يعرفونه جيدا، من البرلمان [لا تحدثوني عن كلمة سجلها معين عبد الملك من مكتب مجهول!]
ولكي يبدو مقنعاً ومدركا فقد انتبه المتوكل للتفاصيل الصغيرة مثل الفرق بين هايدروكسي كلوروكوين وكلوروكوين سولفات، وغير ذلك من التفاصيل الصغيرة. ولأول مرة، بحسب علمي، يتحدث الحوثيون رسمياً عن "اليمن الشمالي واليمن الجنوبي". يبدو أن انتصارهم في الجوف وحصارهم لمأرب دفعهم لوضع هذه الحقيقة على الطاولة، وفيما يبدو فهم يستعدون للانتقال إلى طور آخر من أطوار السيادة/ الدولة. قال إن "الآخر" لم يرد على دعوة للعمل المشترك من أجل احتواء كورونا، وأنهم في المجمل وضعوا خطة طوارئ للشمال والجنوب!
ثمة حركة أخرى على الأرض، على أرض هادي الشريد:
مزيد من القوات السعودية تصل إلى أبين وعدن! ما علاقة ذلك بوباء كورونا؟ ولماذا ليس إلى مأرب؟
شرعية هادي، وهي فكرة بلا سلطة ولا سيادة، قدمت هذه المساهمة من أجل احتواء وباء كورونا:
قامت باستبعاد كل الموظفين في مستشفى الثورة في الحديدة [أطباء، عاملون، تمريض، فنيون، إدارة .. إلخ] من كشف الرواتب! بينما ينادي كل العالم إلى بذل كل المال والعرفان للقطاع الطبي تقدم شرعية هادي على مثل هذه الأفعال، في هذه اللحظة من التاريخ!
هل كنا نتحدث، قبل قليل، عن كيف تسلك الدولة وكيف تتحرك العصابة؟
وفيما لا يزال هادي وجماعته يتقافزون وراء عقود النفط وأشياء مشابهة [كما تفعل العصابات] قال المتوكل إن وزارته أعطت السلطات المحلية في كل اليمن الإذن بالاستحواذ على المباني العامة والفنادق عند الضرورة لاستخدامها كمشافي لمرضى وباء كورونا [كوفيد 19].
اللحظة، الخطاب، المكان، اللغة، والموضوع .. هذه العناصر الخمسة منحت ظهور الرجل أهمية قصوى، فقد كان أبعد ما يكون عن ناطق باسم عصابة، أو متحدث باسم كاهن. وبالرغم من أنه كان يعالج مسألة فنية صرفة، لا علاقة لها بالسياسة، فإن خطابه جعل هادي يبدو كقائد عصابة غير معني بما يجري في العالم، ولا بشعبه .. إن كان له شعب!
الحقيقة أن "السلطة" كانت هي الوباء الأخطر الذي أصاب اليمنيين في تاريخهم الحديث، سواء أخذت شكل الجمهورية المغشوشة، الشرعية الشريدة، أو الملكية العائدة..
م.غ.