بن دغر ... الرجل المتحوّل
من يتسنى له الإطلاع على مسيرة وتاريخ «بن دغر» السياسي، حتماً لن يستبعد أبداً أن يتخلّى الرجل الوحدوي...
كنت أنا وأخي من أبناء الفقراء، نسكن قرية كبيرة فيها خليط من طبقة الأغنياء والطبقة المتوسطة وطبقتنا نحن التي تعرف بالطبقة الكادحة.
في الجهة الشمالية من القرية توجد هناك القصور الفخمة والفيلات الفاخرة والماركات الراقية من الأثاث، بالإضافة إلى آخر الموديلات المستوردة من السيارات الفارهة، التي يمتلكها بشر آخرين لا يشبهوننا ولا نشبهّم في شيء، وليس يجمعنا معهم إلا صدفة الجغرافيا، والحق المشاع في التنفّس، وتقاسم ضوء القمر، وإشعة الشمس على السواء، غير إنّنا لا نستطيع إن ننازعهم حتى في الحلم، على ما يغرقون فيه من نعيم الحياة ويغترفون من مباهجها وملذاتها.
أمّا في الجهة الجنوبية يسكن أبناء الطبقة المتوسطة، البيوت متواضعة، ومحلات البيع (الدكاكين) أيضاً متواضعة، يكافحون الحياة اليومية عن طريق مواظبتهم في وظائف رسمية مع حكومة البلاد، نظير ما يتحصلون عليه من مبالغ شهرية بسيطة، تسمّى معاشات، هي بالكاد تغطي إحتياجاتهم الضرورية.
نسمّيهم نحن بأصحاب المنطقة الرمادية، فاللون الرمادي حين يضعونه إلى جانب اللون الأبيض يشاهد الجميع ميوله إلى اللون الأسود، وحين يوضع إلى جانب اللون الأسود يتراءى للجميع أنه يميل للون الأبيض، ولهذا لا نحن الفقراء نرى أنهم أقرب إلينا، أو أكثر شعوراً بمعاناتنا، وميلهم إلى طبقتنا التي تعاني من الفقر المدقع، والعوز الشديد والحاجة، أكثر من قربهم إلى طبقة الأغنياء، التي لا ترى أنهم يستحقون أن يرتقوا إلى مكانتهم الإجتماعية أو مستواهم المعيشي الباذخ، إلا أن ما قد تتفق عليه الطبقتين العليا الباذخة والسفلى الكادحة على أن أبناء الطبقة المتوسطة ذات الدخل المحدود مجرد حمير شغل مسخّرة لخدمة السلطة المتحكمة بمصير البلاد، والمحتكرة لخيراتها.
بينما طبقتنا نحن تسكن في الجهة الغربية من القرية، لا تمتلك بيوت بالمعنى الحرفي للكلمة، فكل البيوت التي نسكنها عبارة عن «عشش» ليس فيها ما يوحي بالإستقرار أو يشجع على المقام، لكنها على كل حال تستطيع أن تقينا حر الشمس الحارقة وقت الظهيرة وتظل صامدة في وجه غبار موسم الأعاصير، وإن كنا لا نسطيع فيها الشعور بالدفء عندما يحل الشتاء، وتتعاقب على جلدنا ليال الصقيع الموحشة، كما لا يمكن لسقوفها المتهالكة في مواسم هطول الأمطار وتدافع السيول الغزيرة أن تحمينا من البلل، علاوة على أن تلك البيوت القريبة من ضفة الوادي هي من العجز والضعف على المقاومة، أو البقاء في مواجهة السيول وتدفق تياراتها العنيفة كلما تزايد الطمي وأرتفع منسوب المياه، وهي الفرصة التي يجدها أبناء الأغنياء، ملائمة لإنتشال هواتفهم الذكية، وإلتقاط المقاطع و الصور التي تفيد حضورهم بالقرب من مخاطر السيول الفيضانية، وتوثيقهم لمآسيها، ومن ثم التسابق للنشر على صفحاتهم الفيسبوكية فقط بدافع من الفخر والتباهي.
كنا ذهب نحن إلى مدرسة القرية سيراً على الأقدام في حين يقوم الأغنياء بتوصيل أبناءهم في سيارتهم الفارهة، يومياً إلى مدارسهم الخاصة خارج القرية، كنا نسمع إنها مدارس تتقاضى رسوم باهظة، لكنها نظيفة وجميلة لا تقل جمالاً عن الملابس والمستلزمات التي يتزود بها الطلاب عند الذهاب إليها، وإن المعلمين فيها إذكياء وطيبون جداً لا يحتاجون إلى الضرب أو إستخدام العصا إطلاقا، حتى مع الذين لا يكتبون واجباتهم، فليس يسعهم إلا التعامل معهم برفق، وحتى القيام بالكتابة عن من يماطل أو يتكاسل عن ذلك.
في حين كان معلمنا الكهل، لا ينفك من نهينا عن الحسد وما يمثله من سلوك قبيح، علينا أن ننأى ونبتعد بأنفسنا عنه، إلا إنّنا في الواقع كنا نحسدهم، وكنا نتمنى إن نجد من يحمل عنا نكد الواجبات، ويزيح عن كواهلنا هم كتابتها، وإن كنا نسخر من تراخيهم وإتكأليتهم على إباءهم والآخرين، في ظاهر ما يدور من حديث بيننا بينما نكون في الطريق من وإلى المدرسة، إلا إن في الواقع كنا نتمنى أن نصبح مثلهم أغنياء، ونتصف بالتراخي والإتكالية، على إن نرتبط بحياة الفقر أقل رابطة.
وبقدر ما كنا نبغضهم ويود في كلا منا في الوقت نفسه إلى التعرف إلى أحدهم ومصادقته، كان أباءهم حريصين على عدم إختلاطهم بنا، فهم يرون أن مخالطتهم لنا ستكسبهم عادات أخلاقية سيئة وتصرفات منحرفة وشاذة لا تناسب رفعتهم في المجتمع ومكانتهم المرموقة، مع أنهم لو بذلوا قليلاً مما بين أيديهم من مال وفير كسبوه بطرق غير شرعية من ثروات البلاد، لو بذلوه في تحسين أوضاعنا المأساوية أو أنهم لم يقوموا مثلاً باستغلال ظروف الفقراء المعيشية وتشغيلهم بكد وكدح في أعمالهم التجارية الوسخة مقابل أجر ضئيل يحصلون عليه، لما أضطروا لنصح أبناءهم بإجتنابنا وعدم مخالطتهم لنا، فالفقر مع الجهل والتخلف لا يورّث إلا تقاليد رثّة وعادات قبيحة.
قبل عشرين عام كان أخي متفائلاً جداً، كانت عنده أحلام كبيرة أكبر بكثير من كوابيس هذا الواقع البائس، قال لي ذات مرّة (لا تبتئس، سننجو من جحيم الفقر هذا، أشعر أننا سنعيش في جنة الأغنياء ذات يوم).
لم يدر أخي أن قانون الموت الحتمي لا يقل قسوة عن قانون حياة الفقراء، فقد باغته الموت مكشراً عن أنيابه في ليلة ظلماء، وهو كان لا يزال صغيراً هجم عليه مرض خطير، شرس، لم تستطع مناعة جسمه الهزيل الضعيف مقاومة فيروساته القاتلة.
غداً صباحاً سأذهب إلى قبر أخي المسكين حاملاً له رسالة خاصة جداً، سأخبره فيها أن أرث الفقراء لأبناءهم ليس سوى الفقر والقهر وعادات قبيحة، طالما وجشع الأغنياء محمي بنظام حكومة حقيرة سافلة، وفي آخر الرسالة سأطرح عليه سؤال واضح ومهم، أتمنى أن أجد عنده إجابة شافية.
-هل توجد في الجهة الغربية من الجحيم «عشش» يسكنها الفقراء.؟