يوميات صائمين، أصوات من شمال الكوكب (٤)

اليوم جيراني أقاموا حفل عيد ميلاد، جاري وهو طالب جامعي انتقل للتو للمبنى، على طريقة "أهل السلا في سلاهم وأهل العبادة يصلون" جاء يستأذنني في أن أصدقاءه سيأتون لاحقًا للاحتفاء بعيد ميلاده، كان يريد أن يتأكد أن الموضوع لن يزعجني، لأن هناك احتمالية ما لحدوث ضوضاء. جاري لا يفعل ذلك لأنه حريص على راحتي بل لأنه حريص على القوانين، والقوانين هنا لا تسمح بإزعاج الجيران دون استئذانهم، وهكذا كل القوانين المستحدثة في أوروبا تحاسب على الأذى النفسي، الإهانة، وإقلاق الراحة بنفس درجة إلحاق الأذى الجسدي.

كنت اليوم أتذكر كل اصدقائي المسيحيين الذين عملنا وتعاملنا معهم في القاهرة، كيف كانوا يتصرفون أثناء شهر رمضان وكأنهم منّا، وهم كذلك بالفعل، في مصر لا تكاد تميّز المسلم من المسيحي في رمضان، كنا نتشارك الإفطار والسحور والفوانيس والتهاني وكل طقوس الشهر، لا يأكلون أمامنا ولا يشعرونا بالحرج، لا لأن هناك قوانين تمنعهم عن "اذيتنا نفسيًا" كما هو الحال هنا، ولكن، وكأنهم يقولون لسنا بحاجة لقانون حتى نشعر بكم ومعكم.

لهذا فأنا ضد كل القوانين التي ظهرت مؤخرًا لتمنع الأكل أو الشرب جهارًا في نهار رمضان في بعض الدول الإسلامية، لأنها أولًا تفترض أن الصيام قائم على حرف، وأن الصائم وحش نهم بمجرد أن يرى الطعام او يشمه لن يستطيع إيقاف غريزته وسيلتهم من أمامه ومافي يده، وينسون أن الشاشات العربية تمتلئ ببرامج الطهي ودعايات المأكولات وأن صفحات التواصل معبأة بصور الموائد من أول النهار حتى آخره دون مراعاة لمن هم أحق بالمراعاة، غير القادرين! 

وثانياً لأن هذه القوانين تعزز من سلطة الأكثرية في حضور أقلية غير مسلمة، ولأنها تقف أمام رُخَص الله "التي يحب أن تؤتى" لفئات كثيرة مريضة او مسافرة، أو ببساطة لأخرى غير راغبة في الصيام من أساسه. 

الفريضة الدينية وهي تتحول إلى سلطة وقانون ممن يعتقدون أنهم وكلاء الله في الأرض، ومن ثم إلى مباهاة واستشراف يُنتزع منها أهم صفاتها وهي القناعة! وهذا ما نشاهده هنا في أوروبا، فكل من كان يصوم في بلاده بسوط الإرغام الفعلي او الشكلي، من دون رغبة او قناعة، توقف عن الصيام بحماية الحرية.

كنت ذات مرة اتناقش مع زميل، يتعصب في كل شأن ديني، فهو كان يشارك في الجيش الحر مجاهدًا على طريق الخلافة الإسلامية، كنا في رمضان وكان يدخن في باحة المبنى الخارجية، سألته عن السبب الذي لا يجعله يصوم وهو الذي يتشيع لأكثر الأفكار الدينية تطرفًا، فما كان منه إلاّ أن أشار بقرف إلى الشارع أمامنا قائلًا " ليك كيف النسوان مصلخات، كيف بدو الواحد يصوم! ". لم أفهم هذه العلاقة الذي حاول أن يجعل منها سببًا ونتيجة حتى الآن، ولكن على ما يبدو أن "الموضوع كبير"، وأكبر من قدرة القوانين الجائرة والحريات المنبسطة على فهمه.

مقالات الكاتب

أصبحتُ أمًا!

قلتُ لصديقتي رنا عندما سألتني عن إحساسي بالأمومة بعد أيام عصيبة مرتْ علينا أنا وطفلي، بأنها "إحساس د...

سنة الخروج من فخ المنتصف!

عيد ميلادي، سنة أخرى تركض لا إلى البداية ولا نحو النهاية، عام آخر يخرج من قبضة المنتصف، منتصف الثلاث...