يوميات صائمين، أصوات من شمال الكوكب (٥)

السبت هو خميس أوروبا حيث الإجازات والشوارع الحية والمحال المفتوحة، هدوء بهيج قبل عاصفة كآبة الأحد، وهو بالنسبة لي يعني المشي، الكثير من المشي، بلا وجهة ولا غرض إلاّ من إعادة شحن الطاقة وإخلاء الذهن وممارسة بعض التأمل.

تجوّلتُ في المدينة اليوم وكان في كل شارع تقريبًا شيءٌ موضوع إلى جانب مدخل إحدى المباني ملحوق بعبارة ألمانية نشاهدها كثيرًا تعني " للإهداء"، مش مكرمات ها! ولا معونات ولا تبرعات، هدايا! 

 أحذية شبه جديدة، كتب، أدوات منزلية، أثاث، لوحات، ألعاب أطفال، كل ما طاب، كثير من هذه الأغراض جميلة وجديدة فعلًا، هذه عادة منتشرة كثيرًا هنا، إذا وجدت أنك لا تحتاج لغرض معين في المنزل أو إذا كنت ستنتقل لمنزل آخر أو تريد تجديد منزلك تهب أدواتك المستخدمة لمن قد يحتاجها، بدون مقابل، تضعها أمام المنزل أو تعلن عنها في إحدى مواقع البيع، وأي مارٍ أو متصفح يستطيع ببساطة أن يأخذها، ولهذا بالتأكيد أصول معينة ليس هذا محل ذكرها.

إلى جانب هذه الطريقة توجد طرق أخرى، هناك حاويات كبيرة في الشوارع أيضًا مخصصة للتبرع بالملابس، هذه الحاويات تتبع منظمات خيرية معينة تقوم بفرزها وإعاده تصنيعها وشحنها للأشخاص/ للبلدان الفقيرة.

قمتُ قبل فترة قصيرة بإهداء ثلاثة أرباع الملابس التي في خزانتي بأسهل طريقة ممكنة وأكثرها حفاظًا على كرامة المتلقي، لا أعرف لمن ستؤول هذه الأغراض ولكني أتمنى من كل قلبي أن من ستصلها هديتي تعجبها وتفرح بها. أما لماذا فعلتُ هذا؟ سأخبركم في مقام آخر عن تجربة من نوع خاص أخوضها. 

اليوم عندما مررتُ مرة أخرى بتلك الخزانة التي وضعتُ فيها الملابس قبل أيام طرأتْ على بالي واحدة من تلك الأفكار البالية المخزنة في قبو رأسي، والمرتبطة بكثير من الحشو غير الموضوعي الذي تعرضنا له عندما كنا نتلقن المواعظ عن الصدقات والزكاة وغيرها، قلتُ في نفسي ياللخسارة كان من المفترض أن أتبرع بها الآن في رمضان حتى يكون الأجر مضاعفًا، ثم تنبهتُ إلى كم أن هذه الفكرة برغماتية وصولية تقلل من العطاء كقيمة مطلقة وقائمة بذاتها ومن المفترض أنها لا ترتبط بمبدأ الجزاء والعقاب، ولا تخضع للمساومات ولا ترتبط بوقت.

الصدقة لمن يريد أن يعتبرها عبادة تقربه إلى الله أو تمحو عنه آثام أو تحجب عنه مصائب أمر، والعطاء لأجل فعل الخير، ولأجل الخير وحده شيء آخر. 

قبل فترة وقع في يدي فيديو يتحدث عن الصدقة وتجارب الناس معها وراح "الشيخ" يحكي كيف أن أحدهم كان في ضائقة مالية فقام بالتصدق بكل ما كان معه وكيف أن الله رزقه أضعاف ما كان يحتاجه. وتلك التي مرضت وقدمت الصدقات طلبًا للشفاء، وتخيل لي وكأننا لازلنا في عصر تقديم القرابين، نعطي في انتظار المردود ولأجله وليس لأن العطاء قيمة متعلقة بالعطف والمؤازرة والإنسانية، تتحول فكرة الصدقة وأنت تربطها بذاتك وبما سيعود عليك بسببها في الدنيا إلى استثمار أقرب للمضاربة في البورصة، أعرف الكثير جدًا، وأنا أحيانًا واحدة منهم، لا يفعل فعل الخير إلاّ وفي باله غرض دنيوي يأمل أن يحققه الله له كتعويض، يتصدق بالألف في رجاء المليون، وعندما يقع في مشكلة أو في ضائقة تحوم حوله لحظات العطاء متأملًا أنها ستكون حاجزه المنيع ضد متقلبات الحياة ومشاكلها وعثراتها وأقدارها. 

زد عليها حصر الصدقات في شهر رمضان لأنه الشهر الذي تتضاعف فيه الحسنات وبالتالي الرصيد والعائد من التوفيق الدنيوي، نحن نفترض ونحن نبذل الأموال والعطايا و"المكرمات" في رمضان فقط، أن الجوعى والفقراء والمحتاجين هم طفرات موسمية وليسوا هم أنفسهم من يحومون بيننا في رمضان وخارجه ومن يحتاج الألف ليومه في رمضان سيحتاج مثلها أيضًا في غيره.

(الصور لإعطاء فكرة)

مقالات الكاتب

أصبحتُ أمًا!

قلتُ لصديقتي رنا عندما سألتني عن إحساسي بالأمومة بعد أيام عصيبة مرتْ علينا أنا وطفلي، بأنها "إحساس د...

سنة الخروج من فخ المنتصف!

عيد ميلادي، سنة أخرى تركض لا إلى البداية ولا نحو النهاية، عام آخر يخرج من قبضة المنتصف، منتصف الثلاث...