ما لا تعرفه عن "سنغافورة إفريقيا".. رواندا

خالد بشير .. لموقع حفريات


ترتبط صورة رواندا بمجازر العام 1994، حين قُتل وذُبح نحو مليون رواندي خلال 100 يوم، حيث كُتِبَت وأُعدّت مئات الكتب والأفلام الوثائقية والسينمائية، التي كانت الإبادة موضوعها، ولكن هناك جانب آخر مختلف تماماً لرواندا، لا يعرفه كثيرون، إنها رواندا ذات معدل النمو الاقتصادي الأسرع في إفريقيا، والتي تضاعف معدل دخل الفرد فيها 4 مرات خلال مدة 20 عاماً، إنها "سنغافورة إفريقيا"، كما باتت تشتهر عند الخبراء والمحللين الاقتصاديين.

في نيسان (أبريل) من العام 1994، اندلعت جرائم إبادة واسعة، على يد متطرفي قبيلة "الهوتو"، التي كان يشكّل أفرادها آنذاك 84% من السكان؛ حيث استهدفت أبناء قبيلة "التوتسي"، التي كانت تشكل ما نسبته 14% من مجموع السكان، كما طالت الإبادة المعتدلين من قبيلة "الهوتو"، ممن رفض الاشتراك في أعمال القتل.


استمرت المجازر مدة 100 يوم، وكان يقتل في اليوم حوالي 10,000 شخص، لتكون الحصيلة النهائية حوالي المليون قتيل، ولتنال المذبحة لقب "الأسرع في التاريخ"، ولتسفر عن إبادة نحو 75 - 80% من أبناء قبيلة "التوتسي" من المقيمين آنذاك داخل رواندا.


سجلت الإبادة الرواندية معدلات قتل وصلت إلى 10 آلاف يومياً ما جعلها الأسرع تاريخياً

استخدمت ميليشيات الهوتو في الإبادة أسلحة بيضاء، من السواطير والخناجر، وقد جرت أنهار الدماء في الشوارع، وامتلأت الأنهار والسيول بجثث القتلى. كما أدت الأحداث إلى لجوء نحو 4 ملايين إلى دول الجوار. جرى كل ذلك في ظلّ صمت وعدم تدخل دولي، وفي ظلّ مساندة فرنسية لحكومة الهوتو الحاكمة والمسؤولة الأولى

قبل بداية الانتداب البلجيكي على رواندا عام 1916، كان الروانديون يعيشون في تناغم وانسجام؛ حيث تشاركوا نفس اللغة، والثقافة، والعادات، والتقاليد. ولكن السياسة البلجيكية عَمَدت إلى التقسيم والتفريق بين القبائل، حيث مال المستعمر إلى تفضيل قبيلة "التوتسي" والاعتماد عليها، وذلك لما أبدته من تعاون وتقبل مع المبشرين، بحيث أصبح أبناؤها وُسَطاء في التبشير، الذي كان أحد أهم الأدوات الإستعمارية. وقد وضع البلجيكيون أسساً للتفريق بين الروانديين على أساس الشكل وتفاصيل الجسم. ولم تكن المدارس الحديثة تستقبل أحداً سِوى أبناء التوتسي، كما أُعجب البلجيكيون بالملكية التوتسية ووضعوها على عرش الحكم في البلاد.


أدى التمييز بين أبناء القبيلتين إلى مراكمة الحقد عند الأغلبية من الهوتو، الذين نجحوا في إنهاء الحكم التوتسي بعد ثورة عام 1959. وبعد استقلال رواندا عام 1962، تشكلّت حكومة بقيادة الهوتو؛ حيث استمروا في حكم البلاد حتى العام 1994. وطوال تلك السنوات وقعت صدامات عديدة وعمليات اعتداء على التوتسي، ما دفع بأعداد منهم للهجرة إلى الدول المجاورة.

ومن مخيمات اللجوء التوتسي في أوغندا، الجارة الشمالية لرواندا، تأسست "الجبهة الوطنية الرواندية" عام 1987. وفي العام 1990 بدأت الجبهة بمهاجمة الحدود الشمالية لرواندا، وهو ما دفع بالحكومة الرواندية والحزب الحاكم إلى إطلاق ميليشيات الهوتو والبدء بالانتقام واستهداف أبناء التوتسي، حيث أصبحت هذه الميليشيات الذراع المسلح في الإبادة.

نهاية العام 1993، بدأت الأمور تتجه للتسوية مع انتشار 2500 من قوات حفظ السلام، وتوقيع معاهدة سلام بين طرفي النزاع في تنزانيا، ولكن كل شيء انتهى في السادس من نيسان (أبريل) عام 1994، حين أُطلق صاروخ مضاد للطيارات باتجاه طائرة الرئيس الرواندي، جوفينال هابياريمانا، المحسوب على الهوتو، والذي كان متعهداً بتطبيق بنود السلام.

كانت هوية الفاعل مجهولة، وبينما رأى البعض بأنّ متشددي الهوتو وقفوا خلف الهجوم، بدأت الإذاعات المحلية بالتحريض ضد التوتسي باعتبارهم الفاعلين، لتبدأ بذلك مئة يوم من الإبادة.


شنّت الجبهة الوطنية الرواندية هجوماً باتجاه العاصمة كيغالي، لتتمكن في النهاية من دخول العاصمة وتحقيق النصر، الذي وضع حداً لمئة يوم من الإبادة، ليصبح القائد العسكري في الجبهة "بول كاغامي" رئيساً للبلاد، وهكذا شكّلت حكومة رواندية جديدة ولكن هذه المرة بقيادة التوتسي.


في البداية، واجه كاغامي تحديّات كبيرة؛ حيث استلم بلداً خارجاً للتوّ من إبادة وصراع أهلي دموي طويل، دولة ليس لها أي منفذ بحري، ومُحاطة بعدد من الدول الغارقة في الصراعات الأهلية، والفقر، والفساد. كما كانت رواندا في حينها تعتبر ضمن أفقر 10 دول في العالم، ولم تكن تمتلك أيّة صادرات مهمة، إضافة إلى تحدي إعادة توطين نحو 4 ملايين لاجئ في الدول المجاورة.


جاء التحدي الأول من الجنود المحيطين بكاغامي والذين أرادوا الثأر لقتلى التوتسي، وهو ما لم يكن بالإمكان إيقافه تماماً خلال السنة الأولى. وقد ركزّت سياسات كاغامي منذ البداية على إنهاء الانقسام وتوحيد الشعب ومنع أي ممارسات ثأر وانتقام؛ حيث منع بول كاغامي مجرد استعمال كلمة "هوتو" أو "توتسي"، وحارب الإنتماءات القبلية.


رؤية 2020

بعد الانتخابات الرئاسية عام 2000، والتي وصل على إثرها كاغامي إلى الحكم، ركزّ برنامجه على تحقيق هدفين أساسيين، تمثّلا في مواصلة سياسة توحيد الشعب الرواندي، إضافة إلى تحقيق النهوض الاقتصادي وإنقاذ البلاد من الفقر.

وقد وضع كاغامي وحكومته الجديدة خطّة اقتصادية، عُرفت بـ "رؤية 2020"، والتي هدفت للوصول إلى اقتصاد متوسط الدخل، معتمد على القطاع الخاص، والقضاء تماماً على الفقر المدقع. وتضمنت الرؤية 44 مطلباً محدداً، كـ: إيصال الكهرباء إلى نصف السكان، وجعل رواندا دولة مساواة جندرية. ولتحقيق ذلك قام كاغامي بإرسال فرق مستشارين لدراسة نماذج الصين، وتايلاند، وسنغافورة، والتي تميزت بكونها دولاً استطاعت تحقيق نهضات اقتصادية كبيرة خلال أزمنة قياسية.

واليوم، يبلغ عدد سكان رواندا نحو 11.5 مليون نسمة، تقيم نسبة كبيرة منهم خارج العاصمة، والتي لا يتجاوز عدد سكانها الـ 2 مليون نسمة، وتعمل نسبة كبيرة من الروانديين، تصل إلى حوالي 80%، في قطاع الزراعة؛ حيث تعتبر المحاصيل الزراعية من أهم صادرات رواندا اليوم، وأكثرها مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، إلى جانب قطاعات البناء، والتصنيع، والسياحة، والتعدين، وتنتج رواندا اليوم أفضل أنواع البُن في العالم، وبلغت صادراتها من البُن في العام 2015 حوالي 60 مليون دولار، في حين تمكنت رواندا من جذب أكثر من مليون سائح خلال العام 2014، حيث تتميز رواندا بجمال الطبيعة والنظافة، وقد اختيرت كيغالي أجمل مدينة في إفريقيا للعام 2015، وتحقق السياحة ما نسبته 43% من إجمالي دخل البلاد، كما تم بناء مركز للمؤتمرات الدولية، وهو الأول من نوعه في منطقة "البحيرات العُظمى"، واستضاف حتى اللحظة قمتين إفريقيتين.

وقد وصل معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة (2001 - 2014) حوالي 8%، ليكون الاقتصاد الرواندي بذلك أحد أسرع الاقتصادات نمواً في إفريقيا والعالم. كما ارتفع معدل دخل الفرد إلى 770 دولار، ليصبح بذلك أربعة أضعاف ما كان عليه عام 1994، كما انخفضت نسب البطالة إلى نحو 13%.
وتتميز رواندا اليوم بكونها نقطة جاذبة للمستثمرين؛ حيث تتميز بسهولة الإجراءات؛ فبإمكان المستثمر تأسيس شركة خلال يومين فقط، إضافة إلى استقرار الأمن، وانخفاض معدلات الفساد. وهو ما جعلها تستقطب مستثمرين من مختلف أنحاء العالم، وخصوصاً من الولايات المتحدة، والصين.

وتخطط الحكومة الرواندية للوصول إلى اقتصاد مبني على المعرفة بحلول العام 2020، إضافة إلى التوجه نحو اعتماد التعليم التقني، وفي ذلك الإطار تم إطلاق مشروع "جهاز لابتوب لكل طالب".

وعلى الصعيد الاجتماعي، تسجّل رواندا أعلى نسبة وجود للنساء في البرلمان في العالم؛ حيث ينصّ الدستور الرواندي على تخصيص نصف مقاعد المناصب الحكومية للنساء، كما يتدنى الفارق في الدخل بين الذكور والإناث.


كلّ ذلك، أدى إلى إطلاق لقب "سنغافورة إفريقيا"، و"المعجزة الاقتصادية" على رواندا، ونظراً للدور الكبير للرئيس بول كاغامي في تحقيق المعجزة، أجريَ استفتاء دستوري العام 2015، وتم بموجبه تعديل الدستور بحيث يُسمح لكاغامي الترشح لمرة ثالثة، وقد تمكن من الفوز في الانتخابات الرئاسية العام الماضي 2017.

ورغم ما يتم توجيهه لكاغامي من تهم بالاستبداد والاستئثار بالسلطة، فقد استطاع كاغامي أن يحوّل الإبادة إلى قوة تغيير دافعة للنهوض والصعود الرواندي المستمر.