الطبيب الإنسان
كنت طفلًا صغيرًا حين كانت أمي تحملني على ظهرها في فوج من النسوة؛ فيهن الراجلة على قدميها، والراكبة ع...
ظلت عدن بؤرة مشتعلة لأكثر من أربع سنوات ولاتزال الحرائق فيها مستمرة حتى اللحظة،وظلت الجريمة المنظمة هي السائدة ،وظلت جذوة الخوف متقدة،وظل الأمن هاجسًا يؤرق الجميع،وأمنية يتمناها الجميع .
بدأ المسلسل بإفراغ عدن من نخبها الوطنية والدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية والإعلامية،لأن إفراغ أي مدينة من نخبها يعني موتها،فلا واعظ يذكر الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ولا قيادي يلتف الناس حوله للدفاع عن مصالحهم،ولا شخصية قادرة على التأثير في محيطها الاجتماعي لها القدرة على ايصال صوتهم والمطالبة بحقوقهم،ولا إعلامي يكشف حقائق هذه الجرائم ومن يقف ورائها.
فتحولت عدن إلى مدينة بلا نخبة،بسبب التجريف المرعب الذي طال قياداتها ونخبها التي تحظى بالقبول عند الناس،والقادرة على التأثير في أوساطهم،تجريف بات يهدد بتوقف الحياة في هذه المدينة .
بدأ هذا المسلسل بالاغتيالات الذي طالت رموز المقاومة الحقيقية التي تحظى باحترام الناس وقبولها وثقتها.
ثم اغتيال الأئمة والدعاة والمصلحين الذين اضطلعوا بدور كبير في إرشاد الناس وحثهم على فعل الخير،والسعي بينهم لاصلاح ذات البين وحل نزاعاتهم، وخلافاتهم، وقد رأينا هذا الدور بوضوح بعد خروج المليشيات الحوثية وغياب الدولة .
ثم بالتضييق على الإعلاميين ومنابر الإعلام باتباع أسلوب إغراء الأقلام للتصفيق للباطل،أو ترهيبها عن قول الحقيقة .
اقتل قائدًا يخرج عشرة،واقتل إمامًا يخرج عشرة،وأغلق منبرًا إعلاميًا تسكت عشرة.
استمر التضييق على نخب عدن حتى لم يترك لها سوى باب الخروج، ومغادرة الوطن فقط.
لتبدأ على انقاض هذا التجريف صناعة قيادات ليس لها علاقة بعدن،ورموز لاتمت بصلة للمجتمعها؛ مهمتها نخر المجتمع،وزرع الفرقة،وبث الأراجيف ،وتوزيع تهم التخوين والتشكيك ليكثر سواد المهلليين للباطل،ويخفت صوت الخير والحق.
ما كان لهذه الفوضى أن تستشري في المدينة لولا حالة التجريف الذي تعرضت لها عدن،وماصاحبه من ضخ إعلامي ممنهج، شيطن كل مخالف،وحرَّض على كل خيَّر.
ما كان هذا ليحدث في عدن لو استمر المسجد في أداء رسالته،ووجد الرمز الاجتماعي الذي يحظى بالقبول عند الناس،والتاثير في أوساطهم .
جسَّدت عدن نموذجًا فريدًا للمدنية،وضربت أروع الأمثلة في التكافل، والتعاون، أبان الحرب والفترة التي تلت خروج الحوثيين منها،فلم نشهد حالة اغتيال واحدة،أو عملية سطو واحدة للمتلكات العامة أوالخاصة،وأن وجدت كان الناس على الفور ينكرون على فاعلها،ويأخذون حق المظلوم من الظالم بالإقناع وليس بالإكراه؛ فكان لإنكار المجتمع لهذه الظواهر سلطة توازي سلطة القانون،وهيبة توازي هيبة الدولة .
خرج الحوثيون من عدن وكانت مدينة خور مكسر هي مدينة الوزارات، والسفارات والقنصليات،والكليات، والمعسكرات، والمطار،وديوان الجامعة، وغيرها من فروع الوزارات،ومكاتب الشركات الخاصة والعامة ،لم يفقد أي منها مكيفًا،أو مادونه أو ما فوقة،لم يبسط الناس على بيت خاص، أو مبنى أومساحة لأي مصلحة حكومية مدنية أو عسكرية،وكانت المبادرات الأهلية هي من تدير شؤون الناس،وتسيَّر مصالحهم،وتحلُّ خلافاتهم،وكانت بيوت البعض خلية نحل تواصل الليل بالنهار،تستقبل شكاويهم،وتحل خلافاتهم،وتقدم المساعدات لذوي الحاجات،وكان الجميع في انتظار عودة الدولة،وحين قدمت الدولة بقواتها،وجندها وعتادها،لم تفض نزاعًا بين اثنين،ولم تحمي مرفقًا من السطو،ولم تعيد حقًا أخذ ظلمًا،ولم تنمع الحد من انتشار أي ظاهرة سيئة أو تحاربها،فكيف نجحت المبادرات الأهلية بجهود شخصية لا يملك أصحابها سوى ثقة الناس، واحترامهم ؟ وعجزت الدولة عن ذلك بجلالة قدرها رغم ماتملكه من قوة،وصفة قانونية ،ومع ذلك لم تقدم معشار ماقدمته المبادرات الأهلية،رغم فارق الظروف والإمكانات.