صوت الإنسان ومستقر الجد والوالد

هناك قصة في التاريخ الإسلامي تربينا عليها جميعا بحب شديد، وهي قصة إسلام بلال الحبشي. فكلنا يذكر كيف تم تعذيبه من قبل قريش وكيف أعتقه سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما. وكيف أنّ النبي ص.ع. رأى أثر قدمي بلال في الجنة ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكيف أنّه اختاره من بين جموع المسلمين ليؤذن للصلاة، بعدما صاح سيدنا عمر رضي الله عنه "صوت الإنسان المؤمن هو من سينادي للصلاة"، ليشير النبي إلى بلال قائلا "فلينادي بلال فإنه أندى صوتا". فأصبح صوت بلال هو عطر ذاكرة الصحابة لكل لحظة وذكرى مع رسول الله ص.ع. وقد امتنع بلال عن الأذان بعدما توفي رسول الله ص.ع. مهاجرا من المدينة إلى الشام بعدما أصبح المكوث في المدينة يشكل عبئا للروح دون رسول الله. وبعد مر الأعوام وتجدد اللقاء بالصحابة حدث أن ترجوه ليؤذن لهم، فاعتذر منهم لعدم قدرته على النداء والنبي ليس بينهم، إلى أن ارتمى بين أحضانه الحسن والحسين قرة عين النبي، فوافق لأجل قدرهما في قلب جدهما ص.ع. وصعد بلال ليؤذن وما كاد ينطق بأولى الشهادتين أن "أشهد أنّ لا إله إلاّ الله" حتى صاحت الناس في البيوت والأسواق "أبعث رسول الله..؟" صلوات ربي وسلامه عليه. وما كاد ينطق ب أن "أشهد أن محمدا رسول الله".. حتى انهارت الجموع باكية واختنق بلال وما استطاع أن يكمل. فما رأت المدينة يوما أشد بكاءا بعد وفاة رسول الله، كيوم قال فيه بلال أشهد أن محمدا رسول الله.

حين سؤل الداعية الأمريكي حمزة يوسف عن نشأته قال : أنا أمي هي من ربتني على حب الأديان. فأبي كان مدرس فلسفة وكان بعيدا عن الدين، بينما أمي كانت أرثوذكسية مؤمنة مولوعة بالعقائد. وقد قالت لي يوما شيء جعلني كثير التفكير حين بدأت أكبر : يا بني أنت نصراني لأنك ولدت في هذا البيت، ولو ولدت في سريلانكا لكنت الأن بوذيا أو هندوسيا. وهذا يعني أننا لسنا على الحق المطلق..لذلك إياك أن تحتقر الناس أو تحتقر معتقداتهم. فلكل وجهة نظره ولكل نصيبه من الحق.

من ذكرياتي الجميلة مع والدي، هي تلك المسافات الهائلة التي أمضيتها معه في السيارة. سواء أثناء العمل أو السفر عبر أوروبا أو في المغرب. وميزة أبي أنه يتقن الحديث عن ثلاث : سرد قصص الأنبياء، وتحليل مواقف الزعماء، ودندنة وغناء كل الأغاني مغربية الأصيلة بحب وشغف. فكنا نسبح الله لمعجزاته وندعوه أن يحفظ االبلاد والعباد ونسافر في روح المغرب عبر كل حنجرة أصيلة كأمثال عبد الفتاح المغاري وعبد الوهاب الدوكالي وعبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني وحميد الزاهر وكل ما خطر في الذهن من أغاني خالدة، في إصرار منه على أن يشاركه كل من معه في هذا الحفل المغربي الحس. فكان الإيمان بالله وحب الوطن وتذوق النغم مذهب واحد.

قبل مدة تواصلت مع السيد البشير المجرد الشهير بالبشير عبدو عبر الصوت بعدما كانت فقط بالكتابة، لأطمئن على أحواله هو والأسرة الكريمة. فكان أن حدث شيء غريب جعلني أتساءل.."كيف يمكن للصوت أن يجعل الوجدان جاثما أمام الوطن وأمام الهوية وأمام العقيدة..؟".

فغابت روحي في الوجد ويكأني عدت للقرن السابع عشر حين كان آخر مسلمين الأندلس يتواعدون سرا، ليخبرون بعضهم بعضا، عن الكلمة السحرية التي كانت متداولة بين أجدادهم قبل حملة محاكم التفتيش ضد أي معتقد يعارض النصرانية. وهي كلمة ما سمعها أحد إلاّ وحلت عليه البركة. فكانوا يلتقون في الدهاليز وبين ثنايا البرية ليسمعون الكلمة همسا.

"لا إله إلاّ الله" موصيا إياه بتكرارها وتوريثها، لكي تكون له حجة أمام رب الكون ووفاء لعهد نهج الجد والوالد. وإلى أواخر عام 1979 كان لايزال هذا العرف متبعا سرا بين الإسبان أحفاد المسلمين بسبب قانون منع حرية المعتقد.

حين سمعت نبرة صوت السيد البشير عبدو المملوءة بطمئنينة وسلام القلب المؤمن وهو يدعو لي بصوت الأب الحنون..شعرت أنّ أرض المغرب حدثتني، فهو " بلاد النور، وانت دايز طل علينا، وحق الجورة، والحسيمة الزينة، وروائع خالدة".. فرأيت أمرا عجبا، متذكرة الحديث القائل "يبعث المرء على ما مات عليه".

فوجدتني أبعث إلى آخر رمضان لي في المغرب وأنا طفلة، كان ذلك عام 1998م. وكما يعلم الأصدقاء والمقربون، فإنّ والدي أصّر على مكوثي في المغرب تحت رعاية عائلية لبضعة أعوام (والتي كانت أربعة) بغرض تعلم اللغة العربية وحفظ القرآن والنشأة على حب الدين والوطن. وكأي بيت مغربي كنا نجتمع حول التلفزة المغربية ننتظر إنتاجاتها الرمضانية. وكان مما لفت انتباه المشاهد المغربي في ذلك العام، مسلسل للسيد البشير عبدو، محوره طموح فنان وأخلاقيات المجال الفني. ولازلت أذكر بعضا من مقدمته الغنائية إلى يومنا هذا وكأنها البارحة "بلا فن بلا نغمة.. بلا حب بلا بسمة.. بلا شعر بلا نسمة... تجف الروح وتفنى وتذوب القلوب بالمحنى.. وتصير بلا معنى". وأتذكره وهو ينشد بحسه الأبوي المعهود رفقة الأطفال الذين كنت في سنهم أنذاك "لو أننا خيرنا لمكثنا أطفال".

 الجميل أيضا، أنه بينما أنا أنصت لكلماته الودودة لي، تذكرت لحظات أذان الفجر وأذان المغرب معا، بألوان ذاكرة الطفولة النقية. فرأيت أمامي فناء دارنا بتطوان ونافورته والحائط الذي ننتظر عبر زواياه انبعاث صوت المؤذن إلينا. ومن يعرف المطربين المغاربة الكبار يعلم أن السيد البشير هو واحدا من القلائل الذين يمتلكون تلك النغمة المغربية الحرة الأصيلة. وهو ممن أمضى طفولته في المسيد (الكتاب)، الذي يعتبرها دوما أجمل ذكريات طفولته، حيث درس القرآن وحفظه على يد مشايخ يتقنون تأذيب مخارج الحروف مما جعله متمكنا من المقامات في فن الطرب.

الشيء الآخر أني لا أكف بيني وبين نفسي بين الحين والآخر عن دندنة مقاطع من أغنية حنا مغاربة ويا الغالي توحشناك، فشعرت بشكل من الأشكال الطريفة أنّ "أنا" تخاطبني.

كل هذه المشاعر الدينية والوطنية، جعلتني أفكر في قوة صوت الإنسان، وفي أوناس لهم فضل على زرع روح الوطن في قلب الطفل الناشىء والمواطن البسيط. فكانوا المدرس الصامت. سبورته الآلة وطبشوره إحساسه الصادق، كأمثال السيد نعمان الحلو، ذلك المبدع الذي أعتبره في رأيي المتواضع "عبد الوهاب المغرب" لشدة تعلقه بالدقة والإنضباظ الموسيقي وسعيه في الإرتقاء بالذوق العام والحس الوطني والكلمة الهادفة. إن لم يكن بأغنية فبلقاء تلفزيوني مليء بالحكمة والإرشاد والموضوعية.

وسط كل هذا.. وجدتني أسأل نفسي فجأة، ترى أي الأصوات والمبادء التي سوف أربي عليها إبني ؟؟ باعتبار ما سيكون يوما، حين ينعم الله علي بالأمومة. 

فلولا وصية أم الداعية لما رأيناه نحن جموع المسلمين جالسا في أحد أجمل الدروس الحسنية الرمضانية التي شاهدتها، والتي تعود لعام 2008. أتذكر وجه الملك محمد السادس الذي بادله الإبتسام وهو يستمع لكلماته في أول الدرس، حين قال "مولاي أمير المؤمنين.. العربية ليست هي لساني الأصلي فأنا أعجمي الأصل واعتنقت الإسلام وتعلمت العربية تعلما، فمعذرة إذا ظهر من لساني خلل أو قصور في بياني ولا سيما أمام أسرتكم المباركة التي عرفت بالفصاحة والبيان". فأشار إليه الملك محمد السادس بكل ود فيما معناه "أن لا عليك".

فردت علي نفسي وبدون أن أفكر، بصوت غير صوتي. ووجدتني فجأة في عام 1957 في مراسم تتويج الملك الراحل الحسن ثاني وليا للعهد تحت رعاية أبيه الملك محمد الخامس رحمة الله عليهما. وترامت إلى مسامعي كلمات من خطابه الخالد. فكان مما اختارت روحي قوله وهو يوصي :

"يا بني.. إحمد الله الذي شرح للإيمان صدرك، ورفع بالإخلاص قدرك..وإياك أن تحيد عن طريق الإسلام القويم أو تتبع غير سبيل المؤمنين، فإنه لا عدة في الشدائد كالإيمان، ولا حيلة في المحافل كالتقوى، واعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وتقرب منه بالأعمال الصالحات دراعا يتقرب منك توفيقه باعا. واجعل القرآن المصباح الذي تستضيء به...ويا بني أوصيك بالمغرب.. بلدك الكريم ووطنك العظيم ومستقر الجد والوالد".

بعد صمت الوصية علت في قلبي أنغام أندلسية أصيلة للمطرب المغربي اليهودي سامي المغربي وهو يغني بمنتهى الروعة في خمسينيات القرن الماضي "نصلي ونغني من صغري... مع ربي والناس من صغري... أنا المغربي طول عمري... شعبي إلي حب جميع الناس..".

يغيب صوت الملحون ويتعالى في وجداني موسيقى الملحن العالمي موريس جار، من فيلم "عمر المختار"، الشيخ الذي تجسدت هيئته أمامي في صورة أنطوني كوين وهو يعلم الأطفال في الكتّاب ممسكا بلوح القرآن، يرافقه طيف نبرة صوت البشير عبدو الذي جعلني أتذكر أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا وأنه يعطي بالرفق ما لا يعطي بالعنف. وأعظم الرفق هو الكلمة الطيبة، وهي عُرف صوت الإنسان المؤمن.. فكان حب الوطن هو أعظم الإيمان بعد أن لا إله إلاّ الله محمد عبده ورسوله... فآه منك يا بلال..

مقالات الكاتب

عين اللص

"ماركوس أوريليوس" إسم لإمبراطور روماني اشتهر بفلسفته قبل سلطته.لديه مقولة رائعة الجوهر، تقول " تُلون...