قراءة في مشهد الصراع الجيوسياسي بين أوكرانيا وروسيا وطبيعة العلاقات التاريخية بين البلدين

تعد أوكرانيا سياسيا واقتصاديا دولة مهمة لروسيا، لكونها خاصرة رئيسية بالنسبة إليها، وتتمتع بثروات وإمكانيات عسكرية وصناعية وزراعية واسعة وضخمة، وموقع جغرافي يفصل بينها وبين معسكر القوى الغربية، فيما يرتبط البلدان بعلاقات ثقافية واجتماعية كبيرة خصوصا في المناطق الحدودية، وكذلك يعد البحر الأسود أحد أكثر أسباب الصراع حاليا ومنه تأتي شرارة الحرب لأن الناتو يعمل إلى جانب الأسطول الأميركي فيه وهو ما تعتبره روسيا تهديدا لمصالحها وأمنها القومي، سيما انها لا تسيطر حاليا على كل المشهد فيه إذ يشكل البحر الأسود منطقة استراتيجية مهمة وحساسة تتداخل فيها المصالح الجيوسياسية لعدد كبير من الدول المطلة عليه مثل رومانيا وبلغاريا وتركيا وهي الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، إضافة إلى أوكرانيا وجورجيا اللتين تجريان مفاوضات للإنضمام إلى حلف الناتو.

وتكمن أهمية البحر الأسود بالنسبة إلى روسيا في كونه طريقا مائيا يصل روسيا عبر مضيق البوسفور في البحر الأبيض المتوسط الذي يتوسط 3 قارات هي أوروبا وآسيا وأفريقيا، وهو ممر تجاري عالمي تسعى روسيا لتسهيل وصولها إليه لتحقيق مكاسب اقتصادية وعسكرية، وهو أيضا يربط روسيا بالدول الشرقية في أوروبا مثل رومانيا وبلغاريا، لذلك تشكل أوكرانيا محط أطماع بين مصالح الروس ومصالح الغرب ما يدفع روسيا إلى تلمس محاولات لكسرها، وهي بالتالي تحدد الخطوط الحمر نتيجة وجود حدود طويلة بينها وبين أوكرانيا لكون سيطرة الغرب على هذا البلد تشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي الروسي.

وتدرك موسكو منذ بداية الأزمة المتصلة بطلب ضمانات أمنية واضحة من الرئيس الأميركي وشركائه في حلف الناتو بعدم ضم دول الجوار الروسي إلى الحلف أنها ذاهبة الى الحرب، كما تدرك أنها خلال سنوات السباق لإستعادة مكانتها الدولية قد نجحت بكسب حرب الأنابيب في مجال السباق العسكري بواسطة نشر شبكات الـ أس 400 وبناء قوات عسكرية حديثة متفوقة للقتال النظامي التقليدي والسباق على أنابيب الطاقة عبر إمساكها بمورد الطاقة الرئيسي لأوروبا وبنقطة الثقل في توازن توريد الطاقة وسوقي العرض والطلب في النفط والغاز وان دونها والربح المفترض في سباق أنابيب المال والإعلام التي يمسك بها الأميركيون وحلفاؤهم، عقود وليس مجرد سنوات، فالنظام المصرفي العالمي وشبكات الإعلام والمعلومات تحت القبضة الأميركية بالكامل، وأن الأميركي لن يتركها تحقق التوازن في هذا المجال لترتضي منازلة محتومة الفوز لروسيا وحليفتها الصين، التي سيقوم على عاتقها تحقيق التفوق في سباق أنابيب المال والمعلومات والإتصال، ولذلك كانت التوقعات الروسية بإعداد أميركي لحرب وشيكة والإعتقاد الجازم بأن أوكرانيا ستكون ساحة النزال الوشيكة.

خلال عامين كانت واشنطن وموسكو تقتربان من لحظة المواجهة، ويعتقد العسكريون الروس أن الإنسحاب الأميركي من أفغانستان والإنخراط في مفاوضات العودة إلى الإتفاق النووي كانا من جهة تعبيرا عن مأزق واشنطن العالقة في منتصف الطريق الشائك في الملفين، لكنهما كانا من جهة موازية تخففا من الأثقال استعدادا للمواجهة في أوكرانيا التي تشكل ثاني أكبر الدول بعد روسيا بين دول الإتحاد السوفياتي السابق مساحة وعدد سكان وقدرات عسكرية وتطور تقني، فـ النظرية الأميركية التقليدية التي صاغها مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق "زبيغنيو بريجنسكي" عام 1980م، أن روسيا بدون أوكرانيا مجرد دولة كبيرة، ومع أوكرانيا هي دولة عظمى، والخطة هي الفشل في حل سلمي لأزمة إقليم دونباس تنتهي باجتياح أوكرانيا، بالتزامن مع ضم أوكرانيا لحلف الناتو ووضع روسيا أمام أمر واقع يشبه ما فعلته روسيا بضم شبه جزيرة القرم عام 2014 للميلاد.

ينظر الأميركيون الى أوكرانيا نظرة تضعها في مصاف ألمانيا أو اليابان عشية الحرب العالمية الثانية حيث خمسون مليون نسمة من السكان وأكثر من 600 الف كيلو متر مربع مساحة، واقتصاد رشيق بحجم 150 مليار دولار، يحتل موقع استراتيجي في قطاع الحبوب والزيوت وتكرير المشتقات النفطية وممرات أنابيب الغاز الروسية وصناعة التقنيات المتطورة والحديد والصلب والطائرات، وكتلة صلبة متطرفة قوميا ودينيا وعرقيا تنتمي لأصول قاتلت في الحرب العالمية الثانية ضد الجيش السوفياتي الى جانب المانيا بقيادة "أدولف هتلر" ودفع الجيش الأحمر آلاف الجنود لاستعادتها، ويمثل النازيون الجدد فيها قوة لها امتدادات أوروبية وازنة في العديد من دول الجوار وصولا إلى ألمانيا، وفي تصويت على مشروع قرار تقدمت به روسيا في تشرين الأول عام 2021م يدعو لتجريم تمجيد النازية، صوتت واشنطن وكييف فقط ضد القرار الذي أيده 135 دولة مع روسيا وامتنع 45 عن التصويت، والإهتمام الأميركي بتشكيل أرضية صلبة للعداء لروسيا تستند إلى هذا التطلع النازي الجديد، كان أحد عناصر الرهان على إجبار الحكومات الأوروبية وخصوصا الألمانية للتحسب لخطورة معارضة الخطة الأميركية.

الأميركيون وعدوا الأوكرانيين بضمهم للناتو بعد حسم وضع إقليمي دونباس عسكريا، وقاموا بتزويدهم بالسلاح والتقارير الإستخبارية استعدادا لذلك، لكن موسكو كانت تتابع، وكان إصرارها على رسالة الضمانات يسير بالتوازي مع استعداداتها للحرب، وكانت المعادلة الأولى المطروحة على طاولة القيادة الروسية تقوم على انتظار بدء الهجوم على أقاليم دونباس من الجانب الأوكراني، وفي هذه الحالة قد تكسب موسكو إعلاميا موقعها كمدافع لكنها قد تخسر عسكريا، ولأن الكسب الإعلامي مؤقت بحكم السيطرة الأميركية على منابر الإعلام والكسب العسكري ثابت كانت الأفضلية للسيناريو البديل، بدأت موسكو العمل العسكري عندما تيقنت من عدم وصول رسالة الضمانات، وهو ما اعتبرته جوابا كافيا لنية الحرب، لأن لا شيء يمنع توجيهها إذا كان الحال كما يقول الأميركيون اليوم للأوكرانيين بعدما اشعلت روسيا الحرب وصار الضم للناتو مستحيلا.

ان الفرق بين قدرة المبادرة وتحقيق المفاجأة قد يبدو تفصيلا لكنه مهم جدا في الحرب فحتى لو كانت المبادرة مفاجئة، فهي تبقي صاحبها ممسكا بزمام الأمور، وهكذا حسمت موسكو أمر الحرب متنازلة سلفا عن ربح الشوط الأول إعلاميا وقبلت الظهور بمظهر لا ترغبه كدولة تغزو دولة أخرى مقابل أن تربح الجولة الأولى عسكريا وتمتلك أفضلية النقلة الأولى على رقعة الشطرنج وسيستمر السباق على هاتين المنصتين، موسكو تتقدم عسكريا وهي واثقة من أنها تنفذ خطتها بحذافيرها لكنها تتحمل غبار حملة إعلامية قاسية تصورها في حال إخفاق وتتهمها بارتكاب جرائم وانتهاكات، بانتظار أن تفتح المنصة المالية التي قاد الأميركيون فيها بسرعة حملة شرسة بهدف إحباط المشروع الروسي بتجميد أصول البنك المركزي وأصول البنوك الكبرى والشركات العملاقة ورجال الأعمال الكبار، والرهان الأميركي كان على تجفيف الوقود الأهم من الآلة الروسية وهو المال، وحجب دعم النخبة الحاكمة للرئيس الروسي، لكن بوتين بدأ أنه كان مستعدا فهو يعرف معنى لعبة تسمى بالتبييت في حال الشعور بالخطر، هي ضربة وقائية يتبادل عبرها البهلول والقلعة مكانيهما لتتولى القلعة حماية الملك.

انطلقت العمليات الحربية الروسية في اتجاهين متوازيين الجيش من جهة والمجتمع من جهة أخرى، فـ الجيش يواصل التقدم وفقا للخطة المرسومة ولا يستطيع تعطيل مهمته أحد، أما المجتمع فهو ليس الأغنياء فيه وحدهم فهؤلاء الذين استهدفتهم العقوبات وعدوا بأن أملاك الشركات الغربية ورجال الأعمال الغربيين سيتم ضمها الى وصاية قضائية لتعويضهم منها مقابل خسائرهم، لكن قاعدة المجتمع التي تسأل عن الوقود والخبز واللحوم وأسعارها فقد تم تحييدها عن أي تأثير سلبي للحرب، بل ان الإستهلاكيات الروسية شهدت تخفيضات تشجيعية للمواطنين للشراء من أجل تحريك عجلة الإستهلاك، ويعتقد الاقتصاديون الروس أن تجميد صلة روسيا بالأسواق العالمية عبر تعليق العمل بالبورصة وتقديم حوافز لبيع الروبل مقابل الذهب ورفع الفائدة على الروبل نجحت بتحديد الخسائر في القدرة الشرائية مع وجود احتياطيات تحت السيطرة تزيد عن 55% من إجمالي الإحتياطيات النقدية تقدر بـ 350 مليار دولار اتاحت التحكم بالأسواق وضمنت القدرة لسنوات لتأمين الحاجات الأساسية المستوردة وهي محدودة بينما بقي التدفق اليومي لعائدات بيع الغاز والنفط سيولة اضافية كبيرة.

وتكفي الإشارة الى انه في اليومين الماضيين قاربت مبيعات روسيا من الغاز والنفط مليار دولار مقابل 300 مليون في اليوم العادي، والسبب ارتفاع الطلب الى الضعف من جهة وارتفاع الأسعار بين 50% للنفط و 150% للغاز من جهة موازية، وبالمقابل دخل الغرب في سباق مجنون لحرب الأسعار في أسواق الأساسيات وهي الغذاء والنفط فسوق القمح والذرة والزيوت روسية وأوكرانية وقد توقفت عمليا عن التصدير، وسوق النفط والغاز هي بنسبة 50% بالنسبة لأوروبا و25% بالنسبة لأميركا روسية لجهة حجم التأثير في الأسعار، فزاد إنفاق الأسرة العادية الأوروبية خلال أسبوع مع ارتفاع الأسعار 40% وزاد الإنفاق بالنسبة للأسرة الأميركية بنسبة 30%، والآتي بحسب ترجيحات الخبراء أعظم.

مقالات الكاتب