نصف ساعة من التامل

صورة الحاج محمد البوفاء وعمامته البيضاء الناصعة
وابتسامته التي تزين وجه ابتسامة صادقة تعكس صفاء قلبه وطيبته هذه الصورة لا تمثل فرداً واحداً بل تمثل جيلاً كاملاً من اهلي الوضيع  في تلك الفتره الزمنيه ليست مجرد صورة بل هي بوابةٌ تفتح لنا نافذةً على زمنٍ الجميل زمنٍ كان فيه الإيمان بالله والقيم النبيلة عنواناً لكل فردٍ في المجتمع عندما ننظر إلى هذه الصورة، تتدفق شريط  الذكريات مسجد الجامع الكبير في الوضيع ايام رمضان لجميله و الحاج الخضر الصوفي ومحمد عوض الحيك الحاج صالح شيخ عزان ولخال
ناصر صالح جبران  وقائمة كبيره لايحضرني لوقت لذكرهم   أيام الطفولة اتذكر عندما كان يمر المصلين بجور منزلنا الذهب الى الجامع الكبير وهم ليبسون العمائم البيضاء ويذكرون الله اتذكر جدي شريم رحمه الله وجدي مصوت امطريحي رحمه الله وعلي محمد العود ربي يعطيه الصحه  كانو جيل كامل من الصدق والأمانه كانت فيه القيم  كانت 
العمامة البيضاء عندهم ليست مجرد قطعة قماش بل هي رمز ديني وثقافي عريق يرمز إلى النقاء والعلم والتقوى 
نعود الى بطل قصة اليوم الحاج محمد البوفاء وكيف تدرج من السياسية الى الزارعة الى حب المسجد 
منذ صباه اختار الحاج محمد البوفاء طريق النضال وانضم إلى صفوف جبهة التحرير في بداية مشواره كان إيمانه بالقضية الوطنية عميقاً وشعوره بالمسؤولية تجاه وطنه دفعه للتضحية بكل ما يملك
كانت علاقة الحاج محمد البوفاء بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وبالرئيس العراقي عبدالسلام عارف علاقة إعجاب وتقدير كبيرين رأى في جمال عبد الناصر رمزاً للوحدة العربية والقوة ولهذا السبب سمى ابنه الأكبر عبد الناصر تعبيراً عن حبه وتقديره للزعيم المصري ولم يقتصر الأمر على ذلك بل سمى ابنه الثاني عبد السلام تيمناً بالرئيس العراقي عبد السلام عارف مما يدل على اتساع آفاقه وعمق انتمائه للقضية العربية لم يكن الحاج محمد البوفاء مجرد عضو في جبهة التحرير بل كان فداياً حقيقياً فقد قام بعمليات تهريب الأسلحة إلى عدن لدعم الثورة هناك  معرضاً حياته للخطر في كل مرة وقد أصيب في معركة الشيخ عثمان،، تلك المعركة التي سطرت أروع ملاحم البطولة والتضحية تم نقله إلى جمهورية مصر العربية لتلقي العلاج هناك في أرض الكنانة وجد الحاج محمد الرعاية الكاملة والاهتمام الذي يستحقه فكان ذلك البلد الشقيق ملاذاً آمناً له وعوضاً صغيراً عن ما قدمه لوطنه وبعد أن تعافى من جراحه حظي بتكريم كبير من قبل  الحكومة تقديراً لدوره في النضال والكفاح وقد حضر أحد حفلات السيدة أم كلثوم تلك الفنانة التي كانت تعبر عن آمال وطموحات الأمة العربية وقد غنت في تلك الليلة لضباط اليمين فكان ذلك بمثابة تكريم إضافي له عشق الفن وتعلق بالقضيةكان الحاج محمد البوفاء من محبي الفن الراقي وقد يكنّ إعجاباً خاصاً بالسيدة أم كلثوم  وبعد سنوات  وعندما تم تمثيل مسلسل عن حياتها حرص على شراء تلفزيون ليتابعه فقد كان ذلك المسلسل بمثابة رحلة إلى الماضي إلى أيام النضال والكفاح . 
بعد هزيمة جبهة التحرير على يد الجبهة القومية شعر الحاج محمد البوفاء بحزن شديد فلم يستطع أن يرى رفاق السلاح يتقاتلون فيما بينهم  قرر بعدها الابتعاد عن السياسة ورغم محاولات الجبهة القومية لإقناعه بالعودة  ولانظمام لهم إلا أنه أصر على قراره رافضاً الانجرار إلى صراعات لا طائل منها  اعتزاله العمل السياسي عاد الحاج محمد البوفاء إلى قريته وتفرغ لعبادة الله وخدمة مجتمعه أصبح مؤذناً في المسجد يعمل في الأرض يعيش حياة بسيطة هادئة ورغم ذلك لم ينسَ يوماً القضية التي كرس حياته من أجلها وظل يحملها في قلبه وتوجه إلى أرضه ليعمل فيها بكل جد واجتهادرائد الزراعة في وطنه لم يكتف الحاج محمد البوفاء بزراعة الأرض التقليدية بل كان طموحاً يسعى إلى تطوير الزراعة في منطقته فكان أول من أدخل زراعة البطاط إلى الوضيع وسعى إلى زراعة العنب والتفاح ولكن الظروف المناخية  حالت دون نجاحه في هذا المجال لم ييأس الحاج محمد البوفاء من الإنتاج بل حول اهتمامه إلى زراعة الحبوب والجلجل والحبحب والقرع والقطن فكان يساهم في سد حاجة السوق المحلية من هذه المنتجات 
ولكن الحاج محمد لم يقتصر دوره على الزراعة فقط فقد
نشأ في أحضان المسجد فكان بيته الثاني ومدرسته الأولى
كان المسجد ملجأه في السراء والضراء وفيه صقل شخصيته،
وترعرع على صوت الأذان
وتعلم معاني الأخوة والتسامح وقد تركت تلك التربية الدينية العميقة أثرًا بالغًا في حيات
كان له صوت جميل رنان ينبع من أعماق الروح كانه صوته  يرتقي بنا إلى عالم آخر من السكينة والطمأنينة صوت الحاج محمد البوفاء ذلك الصوت الذي لا ينسى والذي كان يذكرنا بموذني القاهرة العظام صوته يرن في أذني حتى اليوم كان صوته كالنسمة العليلة اعتقد ان حب الحاج محمد البوفاء لمصر كان يعبّر عن هذا الحب من خلال تقليد موذني القاهرة  والاهتمام بكل ما يتعلق بمصر بعد سنوات طويله ذهبت الى مصر وعندما ستقريت في القاهرة المدينة التي اختارتها ملاذاً جديداً فكلما سمعت صوت الأذان يصدح من أحد مساجدها وخاصة مسجد الجامع الأزهر
تفيض بي مشاعر مختلطة من الفرح والحزن من الحنين إلى الماضي والارتباط بالحاضر
صوت الأذان جسر يربط 
بين ماضي طفولتي في مسجد الجامع الكبيربالوضيع والحاضر وجودي في القاهرة بجوار مسجد الازهرصوت الأذان في القاهر  الصوت الذي استمعت إليه منذ طفولتي في مسقط رأسي صوت جدّي الحاج محمد البوفاء وهو يؤذن في مسجد قريتنا هذا الصوت الذي كان يعلن قدوم وقت الصلاة 
عندما أسمع هذا الصوت هنا في القاهرة أشعر وكأنني عدت إلى طفولتي أرى جدّي محمد البوفاء واقفاً في مسجد الجامع الكبيرفي الوضيع صوته يرتفع عاليا يدعونا إلى الصلاة  أتذكر ابتسامته وعطفه علينا وكيف كان يعلّمنا معاني الإيمان 
أعيش في هذه المدينة العظيمة المدينة التي تحمل في قلبها جزءاً كبيراً من تاريخ الأمة الإسلامية  المدينة التي احبه جدي محمد البوفاء اكتب هذا المقال ودموع تدرف وهي دموع حزن على فراق أحبائي وعلى أيام مضت ولن تعود.
هو جميل أن نستعيد تلك اللحظات التي كان صوت الحاج محمد البوفاء يرنُّ في أذنينا معلناً قدوم شهر رمضان المبارك. صوتٌ مألوف حنون  يبعث في القلوب سكينة وطمأنينة  صوتٌ ارتبط في أذهاننا بجماليات رمضان بلياليه الطويلة وعباداته الخاشعة حيث كان الحاج محمد البوفاء صاحب قلب طيب وكرم سخي فكان يفتح بيته لكل محتاج ويقدم العون لكل من طلب المساعدة كان منزل الحاج محمد البوفاء ملاذًا آمنًا للطلاب الذين كانوايقطعون مسافات طويلة للوصول إلى مدارسهم ويشجعهم على الدراسة والاجتهاد لقد كان منزله واحة يعمه جو من الود والمحبة
في الثامن من رمضان من عام 2008م، انتقل إلى رحمة الله تعالى الحاج الفاضل محمد البوفاء إلى دار البقاء تاركًا في قلوبنا فراغًا لا يملأه شيء رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته تاركًا خلفه سيرة عطرة
إن قصة حياة الحاج محمد البوفاء هي قصة كفاح وعطاء وتضحية فهو رجل استطاع أن يجمع بين النضال السياسي والعمل الزراعي وأن يكون صوتاً جميلاً يرن في آذان المصلين وسوف يظل اسمه محفوراً في ذاكرة اهلي الوضيع  رمزاً للعمل والإنتاج والبناء.
20/نوفمبر/2024 يوم الابعاء
*رمزي الفضلي

مقالات الكاتب

في حضن الخوف والحب

في خضم عائلة واحدة وفي قلب مجتمع واحد تتجلى أحياناً قصص تناقض غريبة قصة العم عبدوه علي الذماري واحدة...