استعادة الوعي قبل استعادة الدولة

لم يشهد أي بلد من بلدان العالم عبثًا بهويته ،وتزويرًا لإرادته كالعبث بالهوية والإرادة الجنوبية، عبث خلق وعيًا مزيفًا، وتاريخًا ملفقـًا، فظل هذا الوعي المزيف هو من يحدد خياراته، وإن شئت قل يفرضها !   وجعل من أوهام هذا  التاريخ الملفق أمجادًا يجب استعادتها ، عبث طال كل شيئ  في الجنوب إبتداءً بهويته ، وتاريخه، وتركيبته الاجتماعية ،وانتهاءً باسم البلد وخياراته الوطنية .

بين الجنوب العربي وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية انحسر التاريخ  السياسي للجنوب ،بعد أن جرَّم الوعي المزيف الخوض فيما قبل هذا التاريخ  ومابعده ،حقب سياسية فُرضت قسريًا ،فمرَّت مرورًا عابرًا سريعًا،  فعمر الجنوب العربي لايتجاوز عمر صبي مات في الثامنة من عمرة - ولد في عام  1959م ومات في عام 1967م -  والآخر  مات شابًا في الرابعة والعشرين من عمره ،ولد في عام 1967م ومات في عام 1990م  

ليصبح إجمالي الحقبتين الساسيتين الواقعة خارج حدود التجريم ، 60 سنة فقط ! ورغم قصر المدة الزمنية للحقبتين إلا أن أغلب خواص الناس وعامتهم   يجهلون حقيقة هذا التاريخ وأسبابه ، فيجعلون من الحقبتين شيئًا واحدًا ،لذا تجد من ينادي بعودة الجنوب العربي أما رافعـًا ،أو متوشحًا ،أو معممًا بعلم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ؛ذو النجمة الحمراء التي ترمز للإشتراكية،  تتوسط المثلث الازرق الذي يرمز إلى التفاف دول المنظومة الإشتراكية حولها، هذا  التزييف للتاريخ  أفرز وعيًا مزيفًا،أنتج  إرادة شعبية مزيفة ،قادت الجنوب في كل مرة إلى خيارات خاطئة ،تتنافى مع حقائق التاريخ، وتناقض هوية المجتمع، ولا تعترف بالإرادة الحقيقية للشعب، ولا تستوعب  التمثيل النسبي للمساحةالجغرافية،والثقل السكاني .

فحين قررت الإرادة الشعبية المزيفة  الإشتراكية نهجًا سياسيًا للجنوب صوَّرها مزيفو الوعي إنها خيار شعبي؛ يعبر عن العقل الإرادي للفرد،والعقل الجمعي للمجتمع ، فشرع الرفاق في تطبيق النهج الماركسي في بلد على مشارف البيت الحرام، متحدين كل ثوابت المجتمع   الدينية،و القومية، والثقافية ،وعاداته وتقاليده وتاريخه الحضاري ، زاعمين أنهم ممثلون حصريون للشعب،والمعبرون عن إرادته الشعبية  من باب المندب حتى المهرة ،فشرعوا في تجريف المجتمع من قواه الحية ، بعد أن قاموا بتصنيف قوى المجتمع وأفراده مابين  رجعي وإقطاعي، وبرجوازي، وثورة مضادة، وعميل ، ومرتزق، ويمين رجعي، ويسار انتهازي، مصلحات  ردَّدها أميون لايعرفون حتى معاني هذه المصطلحات التي كانوا يوزعونها على خصومهم .

وظل هوس  تمثيل الإرادة الشعبيةساريًا في كل المراحل اللاحقة،وظلت كذبة التمثيل الشرعي للشعب محصورة في فئة كانت ترى في التمثيل النسبي للجنوب وفقا للجغرافيا والسكان  خروجها من السلطة، فحوَّلت السلطة من استحقاق مبني على التمثيل النسبي، إلى استحقاق نضالي،بعد أن جعلت  هذه الفئة من نفسها  وصيًا على النضال والثورة .

 فاستمرت هذه الفئة في تزوير الإرادة الشعبية ،وإدعاء الوصاية على الجنوب،وتحديد خياراته الوطنية وفقا لمصالحها ،فذهبت  للوحدة حين رأت مصالحها في الوحدة ،ثم عادت نفس الفئة لتعلن الانفصال حين رأت أن مصالحها تكمن في العودة بالجنوب إلى وضعه السابق، وحين فشلت محاولتها عادت لتستعيد دورها من بوابة المظلومية الجنوبية ؛فجعلت من نفسها الفئة الوحيدة المؤتمنة على الجنوب وقضيته، إلى إن  دعاها داعي السلطة فذهبت مهرولة إليها ،وحين لم تجد في الشراكة مايشبع شبقها في  الاستئثار والاستفراد  بالسلطة ، قررت تزوير الإرادة الجنوبية مرة أخرى، باعتبارها الضمانة الوحيدة لتحقيق غايتها، فجمع قادة القوم بني جلدتهم ليعلنوا مجلسًا انتقاليًا  مفوضًا شعبيًا باسم الجنوب،وممثلا حصريًا ووحيدًا له من باب المندب إلى المهرة،في أكبر عملية سطو ومصادره للاستحقاقات النضالية لبقية مكونات  الحراك الأخرى،متهمة بقية  المكونات بالعمالة والخيانة للجنوب وقضيته. 

وحين لم ينجح المجلس في تسجيل أي اختراق سياسي، أوتأييد شعبي له خارج خاضنته الشعبية المحصورة في بضع مديريات نائية؛ دعا أفراده للزحف على بقية محافظات الجنوب، واجتياحها بالقوة، لفرض سلطة الأمر الواقع بعد أن وجد من يشجع هذا الهوس ويغذيه بذريعة تحقيق الإرادة الشعبية  كما في كل مرة  .  

لذا بات لزامًا على القوى السياسية الجنوبية،ومكوناته الاجتماعية العمل على استعادة الوعي الجنوبي قبل استعادة الدولة .

مقالات الكاتب

الطبيب الإنسان

كنت طفلًا صغيرًا حين كانت أمي تحملني على ظهرها في فوج من النسوة؛ فيهن الراجلة على قدميها، والراكبة ع...