الطبيب الإنسان
كنت طفلًا صغيرًا حين كانت أمي تحملني على ظهرها في فوج من النسوة؛ فيهن الراجلة على قدميها، والراكبة ع...
كنت طفلًا صغيرًا حين كانت أمي تحملني على ظهرها في فوج من النسوة؛ فيهن الراجلة على قدميها، والراكبة على حمارها، يقطعن أعناق المسافات من مختلف قرى دثينة المتناثرة،حتى يحط الركب رحالة أمام مبنى صغير ؛مكون من غرفتين مدهونتين بالطلاء الأبيض ،ويلفهما سياج من الشبك الأخضر ،يتخذ الناس من أعمدته الحديدية مرابطًا لحميرهم التي كانت تقل المرضى القادمين من مختلف قرى دثينة المترامية،الموزعة بين مديرتي لودر ومودية، بعد أن رفضت الحكومات المتعاقبة ضمها في مديرية إدارية واحدة .
وفي كل مرة نجد ذات الطبيب،وذات الشخص الذي يمارس عمله بمفرده دون معاون،رغم كثرة المرضى بسبب كثرة القرى،ولعدم وجود وحدة صحية غيرها.
عمر بانافع، اسم تعودنا على سماعه صغارًا،وكبارًا ،كلما هاجمت الأمراض ،وجوائح الأوبئة قرى المنطقة ؛فيفزعون إليه لعلاج الصغار والكبار، النساء، والرجال، دون تمييز بين مرض مزمن، أو جائحة عابرة.
الطبيب عمر بانافع الضيف العابر الذي طاف بيوت المسنين والمقعدين، والمرضى من كبار السن الذي لم تعد أرجلهم قادرة على أن تحملهم إليه،في قرٍ فلاحية فقيرة، لا تتوفر فيها وسائل المواصلات،وقبل ظهور الاتصالات ؛فيلجأ ذوي المريض إرسال شابًا فتيًا يطوي المسافة طيًا حتى يصل إليه ،فيأتي إليه مسرعًا بسيارته البيكاب ذات اللون الأبيض التي تخبر كل من يراها في الطريق أن هناك مريضًا في قرية ما،ويعلم أهل القرية أن في البيت الذي تقف أمامه مريضًا...عمر بانافع مساعد طبيب ماهر أجزم أن خبرته العملية تساوي خبرة استشاري،تخرج في سبعينات القرن الماضي ،وعمل موظفًا في مكتب الصحة في عيادة صغيرة في قرية الدخلة التي تتوسط قرى دثينة ،وظل مرابطًا فيها لم يبرح مكانه منذ خمسين سنة حتى اليوم .
دار الزمان دورته، وتخلت الدولة عن واجبها الوطني والإنساني،لكن الطبيب عمر بانافع لم يتخل عن واجبه الإنساني لحظة واحدة، رغم مضي أكثر من عشرين عامًا من إحالته على التقاعد،وأكثر من ثلاثين سنة على تواري مرافق الدولة التي هجرت؛ بعد أن رفعت الدولة يدها عن دعمها ،وتزويدها بما تحتاجه من مقومات البقاء،ليترك الراهب الدير بعد أن تطاول الزمان عليه وعليها،ليتخذ جزءًا من داره صومعة يتبتل فيها بأجل،وأعظم عبادة وهي خدمة البسطاء،في إصرار عجيب على أن يصل سنين عمره بمابداها .
بالصدفة اليوم وجدت صورته في الفيسبوك،فعادت بي الذاكرة إلى سنين العمر الخوالي التي أنسلت أيامها،وأنفرطت عقودها من بين يدي،وأنا أقف على عتبة الخمسين من عمري ،فإذا بي وجهًا لوجه أمام الطبيب الإنسان الذي لايزال متوشحًا سماعته منذ خمسين سنة ، يستقبل مرضاه بالبشر والترحاب،وكأنهم ضيوف في داره، وليسوا أمراضًا في عيادة حكومية،لازال عمر بانافع يحتفظ بذات الأخلاق،وذات الإخلاص،وذات الوجه الأسمر،الذي تكسوه الابتسامة،سلبته السنون شعره الكثيف الأسود الفاحم لكنها لم تسلبه مبادئة،ولا إنسانيته،إلا إنها فعلت فعلها بعد أن خطت تجاعيدها على قسمات وجهه الأسمر الجميل الذي يتفجر بشرًا ،وهو يداعب الكبار والصغار ،كان يستدرجنا ونحن صغارًا بطريقة عجيبة،كان يمدحنا،فيضفي علينا كل ألقاب البطولة، فتصدقها عقولنا الصغيرة،وتنفعل بها نفوسنا البريئة،بما يضفيه عليها من ألقاب الشجاعة والبطولة، شجاعة كانت تنتهي دائما بالصراخ،صراخ تتداخل فيه ضحكات الكبار بصراخ الصغار، وبعد أن يسكت الجميع يودع الكبار بدعواته لهم بالشفاء،ويودعنا نحن معشر الصغار بابتسامه عريضة مصحوبة بوعد بإن هذه آخر إبرة، وسأصرف لك في المرة القادمة شرابًا حلوًا بطعم العسل،أو حبوبًا بطعم السكر .
كان بارعًا في ضرب الحقن فلا تكاد تشعر بها،لم أر له نظيرًا في حياتي، وكان صراخنا رهبةً من صريف أدوات المجارحة ، وغليان الماء الذي تتراقص فيه إلابر في صحفة التعقيم أكثر من ألم الأبرة ذاتها، التي كان يرقب إستواء تعقيمها من خلف دخان سيجارته المتراقص في الهواء على أنغام غليان مطارش الأبر صعودًا وهبوطًا على نار الموقد ،بينما نحن نختلس النظر إليها شزرًا،وكل واحد منا يتمتم بالدعاء أن تكون الإبرة من نصيب الطفل الذي بجانبه .
ففي كل مرة كان يقنعنا أننا شجعان،أبطال،وكانت كلماته تصيبنا بنشوة مؤقتة تنتهي بالصراخ في كل مرة ،فيعود لإسكاتنا مذكرًا إيانا أن الأبطال لايبكون، وأن هذه آخر إبرة ،فينتقل لمداعبة الطفل الآخر تمهيدًا لغرس الإبرة في إحدى فلقتي مؤخرته، بنفس الكلمات،هذا الولد بطل، أشجع ولد رأيته لا يخاف أبدًا أبدًا، وكان يقنعنا في كل مرة بأننا أبطال لكنها كانت بطولة مؤقتة .
عمر بانافع أنموذجًا من جيل أنقرض أفراده، ولم يبق منه سوى بضعة أشخاص، كالقطع الأثرية النادرة في كل منطقة،من بقايا الأطباء،والممرضين الذين عالجوا أوجاع الناس وآلامهم، أو المدرسين الذين كانوا يقطعوا أعناق مسافات القفار،وبطون الأودية،وشعف الجبال ،ليرفعون الجهل عن كاهل شعب لايزال مثقلًا بالجهل والمرض .
عمر بانافع أنموذجًا من جيل أنقرض أفراده؛ ولم يبق منه سوى بضعة أسماء يجب أن تكتب على وجه مسلة سبئية؛ وتوضع بجوار القطع الآثرية في المتحف الوطني تخليدًا وتكريمًا لأصحابها ،الذين كانوا يذرعون الأرض ذهابًا وإيابًا، برواتب زهيدة مقابل خدمات عظيمة لاتقوى على أدائها اليوم مؤوسسات .
عمر بانافع واحد من أطباء ذلك الجيل الذين كانوا يعالجون أوجاع الناس،وآلامهم التي لم تنته منذ ستين عامًا ،ولايزال مستمرًا إلى اليوم ؛إيمانًا منه بأن الطب رسالة وليس تجارة .
فلايزال الرجل يمارس ذات المهنة، ليس لضيق ذات اليد،ولا لحاجة مادية ،فالرجل من أسرة على قدر من اليسار والثراء، تمتلك من العقارات،وتمارس نشاطًا تجاريًا واسعًا،ولديها الكثير من فدانات الأطيان، وخضر المزارع ،وبإمكانه الانتقال للعيش في أي مدينة في الداخل،أو إللحاق بأولاده في الخارج ،لكنه أقسم إن لا يبرح مكانه ؛حتى يختم مشوار حياته بما بداه قبل خمسين عامًا من اليوم .
سنرحل جميعًا عن هذه الدنيا لكنك ستبقى بعدنا دهرًا طويلا يا عمر،فاسمك ستردده الأجيال جيلًا بعد جيل ،فما قدمته لن تطويه عوادي الدهر ،ولن يضيع في سراديب الزمان .
سعيد النخعي
27/يوليو/2024م
الرباط- المملكة المغربية