الطبيب الإنسان
كنت طفلًا صغيرًا حين كانت أمي تحملني على ظهرها في فوج من النسوة؛ فيهن الراجلة على قدميها، والراكبة ع...
في زيارة للشخصية الوطنية المناضل عبدالله محمد الهيثمي،لقاء استمر لأكثر من أربع ساعات،
وجدت رجلًا ناهز عمره الثمانين عامًا،كان جزءًا من كثير من الأحداث ابتداءً من إرهاصات الثورة ،مرورًا بالدولة،وإنتهاءً بفصول الصراع السياسي التي عصفت بالوطن والثورة معا .
يُعْدُّ عبدالله محمد الهيثمي من أوائل المناضلين الذين تأثروا بالمد القومي لحركة القوميين العرب،ومن الرعيل المؤسس للجبهة القومية،عاصر كل الأحداث التي شهدها جنوب اليمن،من الثورة إلى الدولة،وكان شاهدًا على كثير من فصول النضال،والصراع؛ كمناضلِِ كان جزءًا من هذه الأحداث،وكمثقف يحلل أسبابها،وتداعياتها،وآثارها،ونتائجها .
وأنت تستمع إلى حديث الرجل وهو يطوي عقود السنين التي شهدها اليمن؛ تسمع سيرة وطن ظلت كثير من فصولها مغيبة،لا تعرف الأجيال أسبابها،ولم تستطع فك كثير من عقدها،وطلاسمها؛ بسبب التضليل حينًا،والتجهيل المتعمد أحيانا .
فتجد فصولًا مغيبة ،وحلقات مفقودة،وصفحات لاتزال مجهولة،ومآثر منسية،وبطولات مصنوعة،وتاريخًا ملفقًا،وحقائق مندثرة،تحتاج للكثير من الجهد لنبشها من تحت ركام السنين .
تستشف من صدق نبرة حديثه، ومن أدلته التي يسوقها،ومن محاكمته للأحداث أن تاريخ الثورة لم يكتب بعد بإنصاف وتجرد،وكل مادون عبارة عن هرطقات خطتها يد المنتصر،أو مرويات ينتهي سندها أمَّا لوضَّاع بَرَعَ في التدليس،أو خصم فجر في الخصومة .
وجدت رجلًا ثمانييني انقطع عن كل شيء في الحياة،بعد أن حالت السنون بينه وبين كل شيء إلا الكتب،ما سألته عن حدث إلا وكان له معه قصة، ولا عن كتاب إلا ووجدته قد قرأه من الجلدة إلى الجلدة، حين كان يحدثني عن شقفه بالكتب،وعن مكتبته التي جمعها في بواكير حياته؛ فأجبرته الظروف السياسية على مغادرة قريته؛فحالت بينه وبينها ،ثم مكتبة الحديدة ليجبره الترحال مرة أخرى على أن يودّعها،ثم مكتبة صنعاء التي فارقها،كأنك تسمع حديث عاشق أجبرته عوادي الدهر على فراق معشوقته،أو جماع شحيح للمال سلبته نوائب الأيام مابين يديه عنوة كل ما يملك .
ارتبط بكل قادة العمل الوطني،وكل الرموز السياسية للجنوب،من روؤساء،وقيادات تبؤاوا قيادة العمل الوطني ،ثم قيادة الدولة،وأشدُّ ما لفت أعجابي عند سؤاله عن أي منهم هو إنصافه لخصومه،فتشعر في ثنايا حديثه إجلالًا للأمانة،وتعظيمًا للحقيقة .