الطبيب الإنسان
كنت طفلًا صغيرًا حين كانت أمي تحملني على ظهرها في فوج من النسوة؛ فيهن الراجلة على قدميها، والراكبة ع...
روى لي صديق - رحمه الله -قصة طريفة فيها الكثير من العظة والعبرة،ولاتزال تُكرِّر نفسها،وتعيد إنتاجها في كل مرة،لاتختلف أحداثها،وفصولها عن سابقاتها سوى في أسماء أبطالها فقط.
قال لي: بعد خروجنا من عدن بعد أحداث يناير 86م إلى الشمال زرنا المرحوم حسين عثمان عشال في بيته في تعز، وكُنَّا نظن أننا سنجد الرجل في بيت ضخم،ولديه من الإمتيازات ما يحضى بها معارضو الشمال في عدن كالجبهة الوطنية وغيرها، من إمتيازات في الوظيفة، والسكن والتأهيل ،لمكانة عشال القيادية التي كان يتبؤاها في الجنوب كقائد للجيش،فدخلنا بيتًا بسيطًا،ووجدنا رجلًا أكثر تواضعًا،جمع بين كرم الطباع البدوية الأصيلة،وعمق التجربة في الحياة .
قال صديقي : كنا شبابًا حينها متأثرين بالشحن السياسي،والإعلامي الذي كان سائدًا بين أطراف الصراع،وكنَّا نظن أن خروجنا من عدن لايعدو سوى استراحة محارب فقط،وأننا سنعود بقوة السلاح إلى عدن،وكان حديثنا في مجلس المرحوم حسين عشال ملسطًا على حشد الدعم السياسي،والعسكري اللازم للعودة إلى عدن بالقوة،وكنَّا نردد هذا بإيمان عميق لايخامرة شك، وأن المسألة مسألة وقت فقط... لم يعلق حسين عشال بكلمة واحدة طوال حديثنا،لا مقاطعًا،ولامداخلًا،ولا معترضًا؛وظل مستمعًا لنا حتى أكملنا حديثنا،فرفع رأسه إلينا مبتسمًا قائلًا ( يا أولادي من خرج خرج) لم نتستوعب كلماته التي كانت بمثابة الصدمة لنا،كيف ياعم حسين من خرج خرج؟ فردَّ علينا ساخرًا مبتسمًا( يا أولادي لاتحشدوا دعمًا سياسيًا،ولاتجهزوا عتادًا عسكريًا للعودة بالقوة، سيأتي المنتصرون إليكم بلا حرب بدلًا أن تذهبوا إليهم ) فقاطعته قائلًا: عم حسين أنت بعقلك أو بلا عقل،فرد ضاحكًا بعقلي،وأكمل حديثه قائلًا: ( يا عيالي خرجنا للشمال وبعد فترة التحق بنا من أخرجنا،وسكنوا بجوارنا نازحين،وانتظرنا قليلًا فلحق بهم من أخرجهم وسكنوا بجوارهم نازحين، وأنتم الأن الجيل الثالث من النازحين خلال عشرين سنة فقط،وهكذا ياولدي كلما خرجت فئة لعنة أختها،والأن يا أولادي انتظروا؛ وسياتي المنتصرون إليكم بدلًا أن تذهبوا إليهم )
فقاطعته،عم حسين ايش بايزحزح الحزب؟ قال:( الذي زحزح الذي قبله بايزحزحه ياولدي لاتستعجل)
ولكن عندي لكم نصيحة من يرى منكم أنه آمن على نفسه فليعود،والأيام كفيلة بكم وبهم،فلو أملك من الأمر شيئًا لعدت إلى قريتي، لأقضي فيها ما بقي من عمري فلاحًا في أرضي حتى ألقى ربي .
قال صاحبي : تقبلت كلام عشال حياءً لشخصه ومقامه،ولو سمعته من غيره لحشدت آلالف الحجج،والبراهين لمجادلته لأثبت له بما لا يدع مجالًا للشك خطأ كلامه،وفساد نظرته.
وفي طريق العودة بعد خروجنا من بيته تناقشنا فيما قاله،واجمعت الآراء أن هذا هو رأي الرجعية،وإن الرجعية هي الرجعية،لم تتغير،ولم تتبدل !
فلم ننتظر سوى أربع سنوات حتى تحققت نبؤة عشال،وأتى الرفاق إلى صنعاء،وسلموا البلد دون حرب،أوثمن،ثم زدت فوقها أربعًا أخرى؛ فخرج الرفاق من عدن خروجًا نهائيًا،وسقط الحزب الإشتراكي إلى الأبد،فتذكرت كلام عشال( بايزحزحه ياولدي الذي زحزح من قبله)
فأيقنت صدق مقولته لكن متأخرًا،ولم التقِ بحسين عشال بعدها حتى مات -رحمه الله- لاعتذر له عن سخريتي من رأيه في نفسي، ومنعني مقامه من البوح بها أمامه،وأحمد الله أن حيائي من الرجل منعني من سرد الدلائل والمعطيات التي كنت سأسوقها له لإثبات صحة رأيي الذي أضحك اليوم من ركبتي كلما تذكرته
إنها الحقيقة التي ترفض أطراف صراع اليوم أن تفهمها، وهي إن الإقصاء لايصنع دولة،وأن الصراع لايخلق سوى الصراع،فمن صعد للسلطة بالقوة سيسحب منها بالقوة، ومن أخرج قومه مستقويًا بالسلطة سيأتي قوم يخرجونه بالطريقة ذاتها،وهكذا ستظل الحياة ماضية في فرض قوانينها،وسنن التاريخ تكرر نفسها في انتظار من يفهمها .