عدن هذه الأيام
لم أكره عدن قط مثل كرهي لها هذه الأيام.. لا شيء جميل يمكن أن ينبثق الآن من بين ركام الجحيم الذي خلفت...
ينسب إلى دوستويفسكي أنه قال "لم يعد العمر يتسع لمزيد من الأشخاص الخطأ"، تذكرت هذه العبارة وأنا أشاهد المقابلة التي أجرتها قناة أبوظبي في برنامجها الأسبوعي "اليمن في أسبوع" مع السيد عبدالرحمن الجفري، آخر نائب رئيس جنوبي، بعد أن كان الجفري قد اختفى عن الإعلام لفترة طويلة، أو تم إخفاؤه!.
في حياته السياسية الحافلة بالاختيارات، وقع الجفري كثيراً في اختيار الأشخاص الخطأ الذين يتحالف معهم، كانت كل اختياراته تقريباً خاطئة ولهذا لم يحظَ حزبه بفرصة واحدة للمشاركة في السلطة، أبرز هذه الاختيارات الخاطئة، تحالفه في 2006 مع الطاغية علي عبدالله صالح، وظهوره في منصة الاحتفال وهو يقسم يميناً مغلظأ أنه لا يوجد من هو أفضل من صالح، أما آخر اختياراته المفجعة فهي انصياعه بالولاء لرجل عسكري لا يفهم شيئاً في السياسة، هو عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي، وهذا ما ظهر جلياً في المقابلة، رغم أنه حاول تغليف هذا الولاء بأوصاف المباركة والتأييد لوثائق المجلس الانتقالي، واشتراطه التمسك بها، وحديثه عن تصحيح الخطأ، ورفضه لدعوات "إعادة البناء" في إشارة إلى تصريحات العطاس قبل نحو أسبوع، وهي مماحكات سياسية معروفة بين الاثنين، وبخاصة أن العطاس كان في يوم ما أحد #الخيارات_الخاطئة_للجفري!.
في 2013 التقيت بالجفري في منزله بالعاصمة المصرية القاهرة، كنت قد جلست أنتظره في غرفة الجلوس، وكان الرجل السبعيني في مكتبه يأخذ تدريباً في مجال سياسي ما، وبعد انتهاء التدريب قضينا ساعات طويلة في حوار امتد من #آل_البيت_القرشي في مكة، وحتى #آل_البيت_الأبيض في واشنطن، وهو شخص متعلم ومثقف ومتحدث لبق باللغتين العربية والإنجليزية، وصاحب ذاكرة حديدية، لكنه ورغم أن أحد أنصاره كان يصفه أمامي دائماً بأنه "زقوة" وهي كلمة باللهجة العدنية الدارجة تعطي انطباعاً بالشتيمة وتعني "النبيه المتقد الذكاء"، إلا أنه لا يجيد التموضع في الوقت المناسب، ويخطئ دائماً في اختيار الأشخاص الذين يتحالف معهم، أو ربما هو مجرد شخص سيء الحظ.
ضمن سوء حظ الجفري، كانت بعض التسريبات في دوائر صغيرة مغلقة في العام 2014 تتحدث عن خطة سعودية يتبناها خالد التويجري رئيس الديوان الملكي لدعم الجنوب في مواجهة المد الحوثي المدعوم إيرانياً، وكان الحوثيون قد بدؤوا بالتمدد خارج محافظة صعدة، لكنهم لم يكونوا قد وصلوا إلى صنعاء التي دخلوها في مثل هذا اليوم من العام 2014، ثم تساقطت المحافظات الشمالية تباعاً كأحجار الدومينو، ويبدو أن هذا التسارع شمالاً قد دفع بالخطة السعودية للتسارع جنوباً، فعاد الجفري إلى عدن بعد ستة أسابيع من سقوط صنعاء في أيدي الحوثيين، وبعد ثلاثة أسابيع فقط من اعتصام مفتوح في ساحة العروض بعدن، شارك حزب الرابطة في تبنيه مادياً وإعلامياً، كنت في القاهرة حينها، وكان أحد الأطراف في الرابطة قد طلب مني التنسيق من أجل التوثيق الإعلامي لعودة قيادات الحزب، وهو ما تم فعلاً بشكل يليق بهذا الحدث.
قبل ذلك بأشهر، وخلال السنة الذهبية للحزب (والتي لم تخلو من بعض المنغصات الأليمة)، قال لي أحد الأصدقاء إن الجفري في لقائه بأحد الرؤساء الجنوبيين السابقين في الخارج، طلب بلهجة شديدة وحازمة أن يعتزل هؤلاء الرؤساء السابقون العمل السياسي، وأن الوقت لم يعد وقتهم الآن، ولكني لم أصدق، واعتقدت أنها ضمن المكايدات السياسية التي يمكن بسببها تسريب معلومة من أحد الأطراف السياسية لصحفي ما، ليضرب بها خصوم ذلك الطرف مجاناً.
بعد أن عدت من القاهرة إلى عدن في نوفمبر 2014، التقيت بقيادي كبير في الحزب، قال لي بالحرف الواحد "هذا زماننا وهذا وقتنا"، وكنت سعيداً بهذه الثقة، وأنا أصنف نفسي بأنني أحد أنصار حزب الرابطة، وأشعر بتعاطف كبير معه، فهو أول حزب في الجزيرة العربية، وكان الاستقلال في الجنوب يجب أن يؤول إلى هذا الحزب المتمدن، لكن أطرافاً عربية ودولية أرادت أن تذهب السلطة في الجنوب المستقل إلى شلة طائشة، فتعرضت قيادات الرابطة لاضطهاد كبير، وفر من نجا منهم إلى الخارج، ولهذا شعرت في كلام هذا القيادي في الحزب بأنه ربما قد حان الوقت لإعادة الأمور إلى نصابها، وأنا لا أميل إلى الاشتراكيين الذين كانوا السبب في كل الدمار الحاصل في الجنوب، وقبل سنوات طويلة كتبت أنني لو قررت الانضمام في يوم ما إلى أحد الأحزاب الموجودة فإن هذا الحزب سيكون حزب الرابطة.
استغل الجفري وجوده في عدن وسعى لجمع الأطراف الجنوبية في فصيل واحد أطلق عليه اسم "الهيئة الوطنية" برئاسته، لكن الحظ لم يكن حليفاً للجفري هذه المرة أيضاً، توفي الملك عبدالله، وأجرى الملك سلمان تغييرات جذرية في الديوان الملكي، وبالتزامن كان الحوثيون يحضّرون لاجتياح الجنوب مرة أخرى، وكان أحد المقربين من دوائر القرار في الحراك الجنوبي قد أخبرني أن الحوثيين عرضوا إقامة تحالف مع الجنوبيين، وأنهم سيدخلون عدن لثلاثة أسباب، أولها حربهم المزعومة على القاعدة وداعش، وثانيها أنهم لن يسمحوا بوجود اعتصام مفتوح في ساحة العروض تموله السعودية، عدوهم اللدود، أو بالأصح عدو إيران اللدود في المنطقة، ثم اندلعت الحرب جنوباً، وغادر الجفري، واستغلته كثير من القنوات الفضائية التابعة للتحالف لفترة ثم هجرته.
بعد غياب طويل أو ربما تغييب، ظهر الجفري مجدداً، لكنه ظهور باهت، وتوظيف واضح لاسم الجفري لترميم المجلس الانتقالي المتآكل الذي يضم الاشتراكيين والسلفيين، طرفي النقيض، والخصوم المفترضين للرابطة وللدولة المدنية المنشودة التي يتحدث عنها الجفري.
لم يعد أمام الجفري متسع من الوقت لمثل هذه الاختيارات المفزعة، وإذا لم يكن لديه مشكلة مع الرئيس هادي، والسلطة الشرعية كما يقول، فإن هذا هو السبيل الوحيد المتاح لحل سلمي لقضية الجنوب، يقابله خيار التمكين لشلة طائشة جديدة في الجنوب، ولعل من عجائب الزمان أن الجفري الذي وقف ضد الدولة البوليسية في القرن العشرين، يريد أن يمهد لعودتها اليوم، في القرن الواحد والعشرين.
#أنيس_البارق