عن ثورة 26 سبتمبر .. العَفَن الذي أسقط السفينة ، ولم يغرقها
٢٦ سبتمبر كانت السفينة التي حملت اليمنيين وأبحرت بهم من المياه الضحلة الى المدى الذي أخذت معه مياه ا...
قرر القائد ، الذي تخوض بلاده حرباً دفاعية عن سيادتها ، أن يقوم بجولة يستطلع فيها أوضاع الشعب ، وتفاعل الناس وحماسهم للدفاع عن سيادة بلدهم وانخراطهم في التشكيلات العسكرية ، ومدى استعدادهم للتضحية .
بدأ بالمقاطعة الأولى حيث تجمع الالاف في ساحة بلدية عاصمة المقاطعة يلوحون بالأعلام الزاهية ، ويقرعون الطبول ، وينفخون في الأبواق ويهتفون بحياته وحياة الوطن ، وقام رئيس المقاطعة رئيس لجنة الدفاع بالقاء خطاب ناري أكد فيه على وقوف أبناء المقاطعة إلى جانب القائد العظيم في مهمته التاريخية ، وتقديم التضحيات بالغالي والنفيس حتى تحقيق النصر . انهمرت الدموع من عيني القائد ، وقال لنفسه كيف لي أن لا انتصر وأنا أحظى بهذا الدعم الشعبي الهائل .
تكرر الموقف في المقاطعة الثانية ً، حيث انتدب أحد الوجهاء ليرحب بالزعيم القائد معاهداً سموه على التضحية بكل تملكه البلدة من مال ورجال حتى تحقيق النصر ، واستبدل عبارة القائد العظيم بالقائد الفذ ، وحلت التضحية برجالنا ومالنا بدلاً عن العالي والنفيس . وسالت دموع القائد مرة أخرى بصورة أغزر من السابق ، حتى أن مرافقيه سمعوه يردد : لن أهزم وورائي مثل هؤلاء الرجال .
وفي آخر مقاطعة زارها ذلك اليوم ، تجمهر الناس يتقدمهم ثلة من الشباب يحملون العلم في حركة استعداد معبرة ، ولاحظ القائد أن الهتافات تردد بتحفظ وبلا زعيق أو طبول وبدون أبواق وأهازيج ، وقام محافظ المقاطعة بإلقاء كلمة هادئة رحب فيها بالقائد ، وخلت من التوصيفات ، وخاطبه بإسم المقاتلين في جبهة القتال من أبناء المقاطعة والمئات من شهدائها أن يعيد النظر في إدارة المعركة ، فهنالك كثير من الأخطاء التي لا يمكن للحرب معها إلا أن تكون مقبرة لأحلام الشعب في الانتصار على الأعداء وتحقيق السلام والاستقرار .
لم يشاهد المرافقون هذه المرة دموعاً في عيني القائد ، وحلت محل الدموع نظرات تساؤل واستنكار .
عاد القائد إلى العاصمة وكل همه أن يعرف السر من وراء ذلك الاستقبال " الفاتر" للمقاطعة الثالثة من زيارته في ذلك اليوم والمختلف كلياً عن الاستقبال الحافل البهيج في الأولى والثانية .
أخذ يضرب أخماساً في أسداس ، وراحت الوساوس تعبث بعقله خوفاً من أن إختراقاً معادياً قد تمكن من إحداث شرخ في الجبهة الداخلية !!
وهو في ذلك الوضع الذي قلب كيانه رأساً على عقب ، فوجئ بتقرير لجنة الدفاع المركزية المشرفة على التعبئة العامة ، والذي جاء فيه : إن المقاطعتين الأولى والثانية لم يشارك منهما في الحرب سوى ٣٪ من القادرين على حمل السلاح ، وأن معظمهم تهربوا ، ولم تقم لجنتا الدفاع فيهما بواجب التعبئة حسب ما تقتضيه النظم والأوامر ، وأن إعفاء الميسورين من الخدمة ارتبط بشبهة فساد كبير . كما أن مساهمة المقاطعتين في التعبئة المادية لصالح الحرب تكاد تكون صفراً . أما المقاطعة الثالثة فقد انخرط كل ابنائها القادرين على حمل السلاح في الخدمة العسكرية حسب نظم الاستدعاء ، وقامت لجنة دفاع المقاطعة بواجب التعبئة المادية والبشرية بصورة ممتاز ، وقدمت المقاطعة عددا كبيرا من الشهداء ، وحتى النساء تبرعن بحليهن .
صمت القائد ، وأسقط في يده . أدرك أن الزعيق والمديح إنما يخفي تحته خذلاناً ، وأن المكاشفة هي وجه لحقيقة لا تقبل الشك وهي الاستعداد للتضحية والموقف الذي تجسده .