رحل عبدالله الهيثمي فمن أين أبدأ؟

تتزاحم الكلمات والعبارات فلم تترك فرصة للسان أن ينطق،أو فسحة للقلم أن يجري،فأخذت تتعارك كعراك قطيع الإبل العطشى على مورد الماء بعد أن استبدت الأنانية بافراده فلم يعط أي منها فرصة لصاحبه بالاقتراب من حياضها قبل أن يروي هو عطشه .
فسيطر سؤال من أين أبدأ ؟ على مساحات التفكير،وخلايا الذاكرة معًا !
بعد أن ضرب الحزن وتد خيمته في شغاف النفس فعقدت الحسرة لسانها عن الكلام وشل الكمد حركة بنانها .
من أين أبدأ ؟ سؤال يُجسّد حالة العجز البشري أمام الظواهر الإنسانية النادرة التي لا تتكرر .
فكيف لمن بضاعته الفضول؟ أن يستقصي هذا الطود الشامخ حتى يصل قمته !
أأبدأ بعبدالله محمد الهيثمي الإنسان؟ صاحب الأخلاق الرفيعة،والشمائل الكريمة، والمناقب الحميدة،والسيرة العطرة،والسريرة النقية التي يعجز اللسان عن وصفها، وتعجز البنان أن تخط بعضًا من مأثرها .
أم أبدأ بعبدالله الهيثمي المناضل الذي تشبعت نفسه بحب الوطن الذي ذرعه بأقدامه من أقصاه إلى أقصاه فعرفته حواضره وبواديه،وسهوله وجباله،مدافعًا عن قضاياه،ومنافحًا عن حقوقه بسنانه ولسانه وبنانه .
أم أبدأ بالهيثمي المناضل الذي رحل  ولم تتحقق أهداف الثورة التي نذر لها عمره؛ ولم تكلف نفسها أن تمنحه بعضًا مما كان يحلم به، أوضحى في سبيله بعد أن تزاحم سُرَّاق النضال، وأدعياء الوطنية على قصعتها حتى لم تعد هي نفسها قادرة على التمييز بين  من انتسب إليها بالإصالة، أو امتطى ظهرها بالعمالة !
رحل الهيثمي المناضل القومي المؤمن بمبادئ الثورة ولم ينكسر أمام خيباتها المتوالية،أو يرتد عن أهدافها حتى بعد أن اختطفها لصوص النضال،الذين خدشوا بأفعالهم حياء الثورة،ووقار المبادئ والقيم.
رحل الهيثمي المناضل الذي لم يرَ من الثورة التي كان واحدًا من قادة صفها الأول سوى الإقصاء، وشتات المنافي بعد أن أجبرته يد الاستبداد على  مغادرة الوطن؛ فحمل عصا الترحال إلى تعز، ثم القاهرة، فتبوك ومنها إلى بغداد،ثم العودة إلى القاهرة ،فصنعاء،ثم القاهرة التي كانت آخر محطات رحلته الطويلة  التي استغرقت خمسين عامًا ! ظل طوال عقودها الخمسة يحلم بوطن يتسع لكل أبنائه،ودولة تضمن للإنسان كرامته .
أم أبدأ بالهيثمي المثقف الذي استطاع أن يقهر ظروف نشأته بتخلفها وفقرها وجهلها؛ فاستطاع بجهده الذاتي أن يطور من مستواه المعرفي والفكري والثقافي من خلال القراءة المستمرة، والبحث الدؤوب حتى زاحم كبار المثقفين بالمناكب والركب، فما تذكر  كتابًا إلا وقد سبقك إليه،أو تذكر مرجعًا في التاريخ أو الأدب إلا وذكر لك مؤلفه، وموضوعاته، وأخذ يعدد لك الكتب،والمصنفات التي أُلفت في بابه، مميزًا بين متقدمها ومتأخرها،وغثها وسمينها،فتعجب من سعة ثقافته!  وتتعجب أكثر من إصراره الذي تغلب على عوامل بيئته،وظروف نشأته .
فتجده كالبحر من أي جانب أتيته أفاض،فما تسأله عن شيء إلا استقصاه من كل جوانبه،وما تسأله عن حدث إلا وساق لك حيثياته التاريخية وأسبابه،ونتائجه، فيجبرك على الاستماع إليه حين يتحدث لاتزان طرحه،وحسن منطقه،وهدوئ نفسه،وانخفاض صوته - الذي لايجاوز أُذن سامعه- وصدق لهجته التي تشعرك بها نبرة لسانه،ويدلك عليها إنصافه لخصومه الذي يدل على مرؤته .

             سعيد النخعي
            2021/9/13م

مقالات الكاتب

الطبيب الإنسان

كنت طفلًا صغيرًا حين كانت أمي تحملني على ظهرها في فوج من النسوة؛ فيهن الراجلة على قدميها، والراكبة ع...