خالد الرويشان: الرئيس صالح دعاني إلى المقيل في منزله في شارع حدّة وهذا ما اخبرني به

كريتر سكاي/خاص:

كتب السياسي خالد الرويشان مقالا جاء فيه:

شهادة للتاريخ وصراحة لابُدّ منها!

ماذا قال علي عبدالله صالح حين رأى ديوان البردوني؟

هاتفتُ الشاعر الكبير عبدالله البردوني في خريف 1998 أي قُبَبيل وفاته بسنة تقريباً كما أتذكر من مكتبي في هيئة الكتاب راجياً أن أطبع له ديواناً جديداً وقلتُ له:

لقد نشرنا ديواناً جديداً للدكتور عبدالعزيز المقالح هو ” أبجدية الروح ” وأتمنى نشر ديوانٍ جديد لك أيضاً ضمن منشورات هيئة الكتاب لشعراء وأدباء اليمن .. اعتذر لي بلطفٍ بديع قائلاً:

أتابع نشاطك ونشرك للكتاب بإعجاب .. وبالنسبة لي ليس لدي ديوانٌ جديد للنشر

كان صوته قاطعاً ومؤكِداً .. ربما شعرت بصدمة سريعة قبل أن أقول له:

طيب ، هات لنا يا أستاذ عبدالله كتاباً نثريا جديداً وسننشره

ردّ علي ضاحكاً بالنص: ما عيعجبش!

أجبتهُ متحدياً وضاحكاً: هات وما عليك إلاّ أنشره!

اعتذر بهدوء مرةً أخرى وبتصميم .. فقلت له:

يا أستاذ عبدلله ما رأيك أن نشتري منك نُسَخاً من دواوينك المطبوعة لنوزعها على مكتباتنا التي افتتحناها في بعض المحافظات فوافق فوراً وقال سأبعثها مع السائق.

وبعث بالفعل مئات النسخ من بعض دواوينه المطبوعة ..

بعد حوالي شهر اتصل بي مذكّراً بقيمة الكتب .. تأسفت له عن التأخير بسبب ظروف الهيئة وقلت مرتبكاً: سأرسلها الآن! فقال لي ضاحكاً بلهجة صنعاء وروحها:

مابِلاّ السائق يريد يغيّر التاير حق السيارة! قلت له الآن ولا يهمك! ودعوت أمين الصندوق قائلاً له: فلوس من راسك الآن حق الأستاذ البردوني!

المهم وصل السائق وأخذ المبلغ الذي لايكاد يُذكر .. وانتهى الموضوع!

لكنني كنتُ مذهولاً ببساطة الشاعر الكبير وزهده وتقشفه!

ورحل البردوني عن دنيانا في ظهيرة 30 أغسطس 1999 وما زلتُ أتذكر صوت الأستاذ أحمد جابر عفيف الحزين وهو يبلغني بالنبأ من بيت البردوني الذي مايزال مسجى أمام الأستاذ أحمد في تلك اللحظة الرهيبة التي لاتُنسى!

كان الأستاذ أحمد يحدثني غاضباً من قول أحد أقارب البردوني نريد أن نعرف ماله وما عليه! وقد ظن ذلك طمعاً في ميراث الرجل معتقداً أن ذلك لايليق وما يزال الدم حاراً في عروق البردوني! قلتُ له: يا أستاذ أحمد هذه كلمة عادية يقولونها في ريف اليمن وقبائله فور موت أحدهم وذلك لقضاء ديون الميت قبل دفنه! .. شرحت وحاولت فهدأ قليلاً ..

بعد وفاة البردوني بأيام جاء لزيارتي في بيتي العزي الشاطبي ومحمد المهدي وكانا من كاتبي البردوني وقرائه .. أي كانا يكتبان له ويقرآن عليه ضمن مجموعة من أصدقائه الكاتبين طوال عقود. كان الشاطبي صامتاً طوال الوقت حتى غادر! وعجبت وسألت فقيل لي هكذا طبعه من زمان! عكس محمد المهدي الذي تكلم كثيراً وأفاض عن البردوني وحياته حتى أنني التقيت به مراراً قبيل وفاته بعدها بأشهر وقد كان مريضاً منذ سنوات.

لا أتذكّر اليوم بالضبط وفي تلك الجلسة مَن أهداني نسخةً مما قيل أنهما ديوانَا البردوني الأخيرين الذَين لم يُنشرا بعد. وعندما رأيت النسخة المخطوطة المصورة تلك دهشت ورويت تفاصيل مهاتفتي للبردوني ونفيه وجود ديوانٍ لديه يمكن طبعه! وبعد ما يقرب من ربع قرن مازلت أبحث عن تلك النسخة المصورة من الديوانين المنسوبين إليه بعد أن انتقلتُ من بيتٍ إلى بيت ووسط أكوامٍ ضخمة من الكتب والأوراق.. ولم أجدها حتى اليوم.

أريد أن أُذكّر الطيبين الذين كتبوا قبل أيام في صنعاء وبعضهم من أصدقائي عن المخطوطة معتقدين أن مجرد ذكر اسمي وحصولي على نسخة مصورة منها ذات يوم سيزكيها وسيزكيهم معها .. أريد أن أُذكّر هؤلاء بأنها مجرد صورة! وأن البردوني لم يسلّمها لي بنفسه بل نفاها!

وأن الصورة مع آخرين كثر

وأن معظم قصائدها تم نشرها في ملحق صحيفة الثورة الثقافي بعد وفاة البردوني

وأنني لو اعتقدت بسلامتها تماماً لكنتُ نشرتها وأضفتها على مجموعته!

لكنني لم أفعل!

بعد وفاة البردوني بأيام قررت نشر مجموعة الدواوين الشعرية للبردوني ال 12 التي نشرها في حياته وذلك في مجلدين كبيرين بعد موافقة ورثته. وأردت أن يكون ذلك مفاجأةً للجميع. وبدأنا فوراً بالصف والترتيب والإخراج بصمتٍ ودون إعلان. وكنتُ مُصراً وحريصاً جداً على أن يقتصر الجمع والنشر على ما نشره البردوني في حياته من دواوين ، وقد أشرت لذلك في أول صفحة من المجلّدَين الشعريين الكبيرين! وقد فعلت ذلك عارفاً أنّ نشر المخطوط المنسوب للبردوني ضمن المجموعة قضية غير مأمونة وربما تكون سبباً للاختلاف والخلاف مما يعطّل فرحة إصدار مجموعته الكاملة المنشورة في حياته. ولذلك آثرت أن أجمع وأنشر ما نشره هو وقلت بالنص في تصدير المجموعة” عندما نتأكد من وجود دواوين جديدة للبردوني سننشرها ضمن الطبعات القادمة للمجموعة ”

وحتى تكتمل هذه الشهادة لابد أن أشير بوضوح وصدق وأمانة ومسؤولية إلى أنني لم أشعر حتى بإشارة من مضض أو عتب من الرئيس السابق علي عبدالله صالح بعد طباعة مجموعة البردوني أبداً وعلى الإطلاق!

وهو شأني في المئات من الكتب التي أشرفت على طباعتها حين تقلدت رئاسة هيئة الكتاب وبعدها وزارة الثقافة والسياحة.

قد أختلف مع الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح كثيراً أو قليلاً في مواقفه خصوصاً قُبَيل وبُعَيد كارثة سبتمبر 2014 لكنني أشهد أنه لم يُبدِ إلاّ الإعجاب حين وضعت أمامه النسخة المذهبة من مجلّدَي مجموعة البردوني الطبعة الثانية قائلاً ومبدياً إعجابه: هذا جيد! وكان قد دعاني إلى المقيل في منزله في شارع حدّة الثنيّة وكان ذلك يوم عيد الأضحى في 1 فبراير 2004 وفي حضور بعض الوزراء وعلى رأس الجميع الدكتور عبدالعزيز المقالح.

لقد طبعتُ مجموعة البردوني الشعرية 4 طبعات وكل طبعة 4000 نسخة أو 5000 نسخة وهي أرقام عالية بمقاييس النشر الشعري في العالم العربي في ذلك الوقت! وقد نفدت جميعها.

شهادتي لا تتعلق بالنوايا بل بما حدث وبما رأيت وسمعت وشعرت!

لم أنشر الديوانين المنسوبين للبردوني قاصداً

ربما لأنه أكد لي بنفسه عدم وجود أي ديوان!

وربما أنني فعلت ذلك إيثاراً للسلامة وشعوراً بالمسؤولية واكتفيت بنشر ال 12 ديواناً وهي التي نشرها في حياته. وهي الدواوين الأهم والأكبر والأخلد.

ولو قُدّر لي أن أطبع مجموعته الشعرية الكبرى ونثرياته أيضاً اليوم لما تجاوزت ما نشره في حياته! لا أريد لليمنيين أن يختلفوا اليوم بالمزايدة على تراث البردوني!

لذلك ، فإنني أهيب باليمنيين جميعاً وهم في لحظتهم الممزقة الراهنة ألاّ يمزّقوا البردوني أيضاً! وأن يكتفوا بنشر ما نشره الشاعر الكبير من شعرٍ أو نثر في حياته فقط.

إذا كنتم تحبّون البردوني وتقدّرونهُ حق قدره فالتزموا بما نشر في حياته فحسب! وهو كثيرٌ وعظيمٌ وخالد .. هو البردوني مكتملاً .. فلا تنقصوه بترهاتكم وثرثراتكم ومزايداتكم وضغائنكم ومذهبياتكم!

البردوني أكبر من لحظتكم لأنه الخلود ولأنه عبقرية اليمن الكبير وفلذة جمهوريته وفلتة أزمانه.