نجاح مهمة  الرئيس علي ناصر إلى سوريا وهذا ما قدمته لليمن الديمقراطي

كريتر سكاي/خاص:


إعداد / د. الخضر عبدالله : 

في العدد الفائت  حكى الرئيس علي ناصر  حول عن عودته إلى مصر بعد 22 عاما رغم ما تخلل هذه الفترة  من   المهاترات والصراع  السياسي بين عدن والقاهرة .. واليوم يتحدث عن اليمن الديمقراطي وسوريا.. ويقول مستدركا:" من الصعب أن تقيس أعماق سكان هذه المدينة التاريخية وهي إحدى أقدم مدن العالم، مع تاريخ غير منقطع ، بعض السياسيين اليمنيين منهم من استقرّ في بلاد الشام، وخصوصاً حمص التي دفنت فيها لاحقاً والدتي عام 1996 بناءً على وصيتها رحمها الله.

وفي الصراع على السلطة في اليمن الحديث رحل القاضي عبد الرحمن الإرياني من صنعاء إلى دمشق عاصمة الأمويين بعد استيلاء إبراهيم الحمدي على السلطة في ما سُمّي «الانقلاب الأبيض» عام 1974 ورحل قبله المشير عبد الله السلال إلى بغداد عاصمة العباسيين عام 1967م بعد عزله وتسلم القاضي عبد الرحمن الإرياني حكم الجمهورية العربية اليمنية.

الرئيس ناصر بين الغساسنة والمنذرة

ويواصل الرئيس ناصر حديثه قائلا:" كان عليَّ أن أختار بين «الغساسنة والمناذرة»، بين دمشق وبغداد، فاخترت الأولى بحكم العلاقات التاريخية التي كانت تربطني بالرئيس حافظ الاسد، لما عرف عنه من وفاءٍ لأصدقائه وحلفائه. كما إنني كنت قد تأثرت بزياراتي لمدينة دمشق التاريخ والحضارة منذ زيارتي الاولى لها عام 1970م وحتى الاستقرار فيها عام 1986م. لا تشعر بالغربة في هذه المدينة لما تحيطك به من مشاعر قومية وانسانية، وهذا شعور كل الناس العرب الذين استقبلتهم دمشق من مختلف العواصم العربية وفي مقدمتهم الفلسطينيين الذين يفوق عددهم النصف مليون في دمشق وحمص واللاذقية وغيرها من المدن السورية...

هذه المدينة تصنع الرجال، في السياسة والتجارة والبراعة، وتصنع الحكام، فمنها وبها تعلم معاوية الدهاء والمكر والسياسة، وتحول إلى مدرسة وفلسفة في السياسة، وهو القائل: «لو كان بيني وبين الناس خيط أو شعرة لما قطعتها. إن شدوها أرخيتها وإن أرخوها شددتها». وأنجبت هذه المدينة عدداً من الحكام، وإن كان معظم حكامها يأتون إليها من خارجها، مثلها مثل القاهرة وصنعاء، وعدن وبغداد وطرابلس والجزائر ومعظم المدن العربية، شهدت سلسلة من الأحداث والتطورات والحروب والدماء عبر تاريخها المتواصل الذي لم تنقطع فيه الحضارة والحياة كبعض المدن العربية، ولكنها كانت تتجاوز المحن والمؤامرات والانقلابات بالصبر والتأقلم مع الحاكم الجديد، بيد أن ذلك له علاقة بعمق الحضارة ووعي سكانها الذين عصرتهم الحروب والصراعات وتجارب الحكام والحكومات. فقد شهدت دمشق في القرن العشرين سلسلة من الانقلابات العسكرية قبل الوحدة المصرية السورية وبعدها  ولم تتوقف إلا بعد وصول الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى الحكم، وكنت قد تعرفت إليه في زيارتي الأولى لدمشـق في 25 مارس 1970 م. تلك المدينة العربية أصبحت محطة رئيسة في كل زياراتي للعالم الخارجي.

دمشق لها في القلي مكانة

ويتابع الرئيس ناصر حديثه وقال :" في كل زياراتي الخارجية لا بد من المرور بدمشـق. ذهبت إلى عشرات العواصم، عرفت العديد من البلدان العربية والأجنبية، لكن لا مدينة احتلت مكانها في قلبي كهذه المدينة المشبعة بعبق التاريخ، عدا القاهرة، وقبلهما بكل تأكيد عدن الحبيبة التي لا تنافسها أية مدينة عرفتها في العالم.

 ربما كان قدري المرسـوم منذ تلك اللحظـة… يحدد ما هو قادم في المجهول من حياتي، وهو أن تصبح دمشـق جزءاً من مستقبلي، فتصبح «منفاي» الاختياري… رغم أنني لا أحب كلمة منفى، ولا تنطبق على أي بلد عربي شقيق، وعلى دمشق بالذات، التي تعطيني وتعطي كل مواطن عربي حياة دافئة من الدرجة الأولى.

دمشق تعني لي شيئاً خاصاً يشفع لي حبها منذ تلك اللحظة في زيارتي الأولى التي تنفست فيها رئتي هواء الشام وهواها. كانت تلك هي المرة الأولى التي أشاهد فيها أضواء مدينة دمشق وطائرتنا تستعد للهبوط في مطارها، وحوله برك مياه من بقايا مطر ربيعي، وكانت دمشق تودع الشتاء وتستقبل فصل الربيع وضيوفها القادمين من عدن. 

ويضيف الرئيس ناصر :" تتوقف الطائرة ويفتح بابها، وعند أسفل السلم يقف الفريق الجوي حافظ الأسد وزير الدفاع بقامته الطويلة وبملابسه العسكرية وسط جو معتدل جميل، وكان الأجمل هو اللقاء مع حافظ الأسد ومع دمشق وشعبها. في قاعة التشريفات احتسيت القهوة لأول مرة على الطريقة الشامية، ثم انتقلنا إلى استراحة أبو رمانة في الحيّ الدمشقي الجميل الذي عرفنا من مرافقنا أنها كانت مقر سكن المشير عبد الحكيم عامر في فترة الوحدة السورية المصرية وحتى يوم إعلان الانفصال عام 1961م. وبعدها التقيت الرئيس الدكتور نور الدين الأتاسي رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، فنقلت له رسالة الرئيس سالم ربيع علي، وقمت بشرح الأوضاع في اليمن الديمقراطية، وحينئذ أكد الرئيس الأتاسي وقوف الجمهورية العربية السورية إلى جانب الثورة والسلطة في اليمن الجنوبية.

قضية الشرق الاوسط

ويسترسل الرئيس ناصر في حديثه  ويقول:"تطرق حديثنا إلى عدد من القضايا العربية المهمة وخصوصاً قضية الشرق الأوسط، وقد ناقشنا العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين، وأكدنا أهمية تعزيزها وتطويرها. وكان ردّ الدكتور نور الدين الأتاسي إيجابياً على مجمل القضايا التي بحثتها معه، وكنا قد اتفقنا على عدد من الإجراءات، منها:

الحاجة إلى فتح سفارة لبلادنا في دمشـق. وأبدى الرئيس استعداد الحكومة السـورية بتجهيز المبنى كاملاً على نفقتهم نظراً لوضعنا الاقتصادي الصعب.

كما تم الاتفاق على أن يقوم رئيس مجلس الرئاسة «سالم ربيع علي» بزيارة سورية في منتصف شهر مايو من العام نفسه. وأبدى الرئيس عدم ارتياحه لموقفنا من رجال الدين والاحتفالات المبالغ فيها بالذكرى المئوية لميلاد لينين عام 1970م، وقال وهو يضحك: إذا قلت: الله أكبر، فسيخرج حولك ومعك خمسون ألفاً، وإذا قلت: لينين، فلن يخرج معك أحد من سكان عدن! وقد سمعت مثل هذه الملاحظة بعد ذلك من معمر القذافي وأنور السادات أيضاً.

بعدها عقدتُ اجتماعات مع الفريق الجوي «حافظ الأسـد»، وزير الدفاع السوري الذي أصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية العربية السورية.

في الساعة الخامسة من مساء يوم وصولي 25/3 التقيته بحضور رئيس هيئة الأركان العماد مصطفى طلاس، شرحت الأوضاع الأخيرة في بلادنا، وحاجتنا إلى دعم سورية لإعادة تنظيم وزارة الدفاع، وإمدادنا بمعدات عسـكرية وطيارين سـوريين للعمل في القوات المسلحة اليمنية الجنوبية، وبحثنا كذلك مجمل الأوضاع في سورية والمنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً.

نجاح المهمة إلى سوريا

في اليوم التالي التقيته مرة أخرى حيث أبلغني موافقة سورية على كل الطلبات التي تقدمت بها من الأجهزة والمعدات العسكرية، وجرى الاتفاق على إرسال كل هذا في غضون شهر إلى عدن. كذلك اعتمدوا لبلادنا خمسين منحة في الأكاديميات العسـكرية السـورية، إضافة إلى إرسال بعثة عسـكرية من الطيارين السـوريين والقانونيين والأطباء العسـكريين.

هكذا كان... ففي غضون شهر شـحنت سورية إلى عدن كل المعدات والتجهيزات في 28 رحلة جوية، وبعثت بجميع الطيارين والمهندسين الجويين الذين باشروا مهمتهم على الفور في إعداد القوات الجوية اليمنية وتدريبها. ووصلت إلينا بعثة عسـكرية تعليمية برئاسـة اللواء إبراهيم يونـس لتأسـيـس الكلية الحربية  وبعثة طبية برئاسة العقيد الدكتور ظافر البيطار، وبعثة قانونية برئاسـة اللواء زهير غزال الذي أشرف على تنظيم وزارة الدفاع والقوى والأسلحة والألوية في الجيش . وقد سردت تفاصيل ذلك في الكتاب الخاص بالدولة.

كانت لقاءاتي بالمسؤولين السـوريين إيجابية جداً ومؤثرةً، فسورية التي تمر بظروف صعبة نتيجة مواجهة العدوان الإسرائيلي، لم تبخل برغم ظروفها تلك أن تقدم إلى قطر عربي شـقيق كل الدعم الذي تقدر عليه، في وقت هي في أمـس الحاجة إلى كل ليرة لمواجهة العدوان وإزالة آثاره.

ربما استطعت أن أفهم العوامل التي ساعدت وساندت إنجاح مهمتي في دمشق. أولها استيعاب القيادة السورية لقومية المعركة، واقتناعها بأن أي سند يقدم إلى بلد عربي مهما بدا بعيداً عن خط الجبهة، فهو دعم لصمود سورية والمعركة القومية ضد العدو الصهيوني والتكالب الإمبريالي. والثاني أن سورية التي تتعرض للعدوان وجربت التآمر، وتتعرض للصعوبات والضغوط السياسية والاقتصادية، لا تحب أن ترى بلـداً وشـعباً عربياً آخر يتعرض للمحنة والأحزان نفسها. وأما الثالث، فقد كانت الرغبة الصادقة - وبلا أية شروط - في تقديم الدعم والمساعدة للثورة في جنوب اليمن. وقد سبق للسـوريين أن قدموا دعماً صادقاً لا يُقدر بثمن لثورة شعبنا في الشمال خلال حصار الملكيين لصنعاء حيث شارك طيارون عسكريون سوريون في الدفاع عنها وفكّ حصارها، وكان السوريون ينطلقون من موقف قومي مبدئي. وتكررت بعد ذلك زياراتي الرسمية والودية الى سورية وتعززت علاقاتي الشخصية والرسمية بالقيادة السورية وفي مقدمتهم الرئيس حافظ الأسد منذ الزيارة الأولى وحتى مغادرتي للسلطة عام 1986م.