الرئيس علي ناصر محمد يكشف لاول مرة عن تعرضه لمحاولة اعتقال

كريتر سكاي/خاص:

تقرير/ د. الخضر عبدالله:

قرصنة جوية لاحتجاز حسين

تطرق الرئيس علي ناصر في الحديث السابق عن حول لقاء محمد أحمد جرهوم، وزير الثقافة والإعلام في الحكومة الجديدة في عدن بالرئيس الإثيوبي منغستو .. وفي هذا اللقاء يتحدثنا عن محاولة اعتقاله من قبل سلاح الطيران الجنوبي .. طلبنا من الرئيس ناصر ان يروي لنا عن هذه الحادثة بالتفصيل الممل حيث قال مستدركا في حديثه:" في شهر آب/أغسطس 1986م أبلغ أحدهم سلطات عدن بأن طائرة إثيوبية تستأجرها دولة جيبوتي من شركة الطيران الإثيوبية ستتوجه يوم السبت 16 آب/أغسطس من صنعاء إلى أديس أبابا، وأن هذه الطائرة تقل شخصاً يدعى حسين، وأن هذا هو الاسم المستعار ( لي ) ، وفور تسلّم البلاغ، صدرت الأوامر إلى سلاح الطيران الجنوبي في عدن باعتراض الطائرة المذكورة عند ظهورها في الأجواء الدولية القريبة من عدن. وفعلاً، أقلعت عدة طائرات حربية واعترضت الطائرة المدنية وأجبرتها تحت التهديد على تغيير خط سيرها والهبوط في مطار عدن. وبالطبع، لم أكن على متن تلك الطائرة المخطوفة، وكان المسافر شخصاً آخر يُدعى (حسين هزم)، وكان موظفاً في الملحقية العسكرية لدى سفارة اليمن الديمقراطية في أديس أبابا.

هذا ما قاله هزم للرئيس ناصر!

و يقول الرئيس ناصر مضيفا في حديثه :" روى لي حسين هزم بعد ذلك أنه عندما شعر بخطورة الموقف وجديته، أخبر طاقم الطائرة الإثيوبي بهويته وبخطورة وضعه لو أمسكوا به، وأبدى الطاقم تفهماً لموقفه وقدّم إليه بذلة طيار ارتداها على الفور، وطلبوا إليه في حالة نزوله في مطار عدن ألا يفارق أفراد طاقم الطائرة وألا يتحدث العربية تحت أي ظرف كان... واضطر إلى النزول مع أفراد الطاقم وبقية ركاب الطائرة حتى يتسنى للجنود الذين أحاطوا بالطائرة من كل مكان تفتيشها، وقد خاب أملهم بعد أن اكتشفوا عدم وجودي في تلك الطائرة وعدم دقة المعلومات التي أبلغهم بها مصدرهم من مطار صنعاء.

ويستكمل الرئيس ناصر ما قال له حسين هزم ما جرى في مطار عدن :"كنت أخشى أن يتعرفني أحد ضباط الأمن، ويبدو أنهم بدأوا يشكّون في أمري، وحقيقة شخصيتي، فتعرضت لاستفزازات كثيرة في المطار، والشتائم، ولعلهم أرادوا من خلال هذا الأسلوب إخراجي عن طوري، وتوقعوا أن أرد عليهم بالعربية، فيكشفوا حقيقة من أكون. ولكنني حسب نصيحة أفراد الطاقم تظاهرت بأنني لا أفقه شيئاً مما يقولون، ولا علم لي بالعربية. ورغم شعوري بأنني أتقن دوري، إلا أن رجال الأمن ظلوا على شكّهم فظلوا على استفزازهم لي. ومن جانبهم، وقف الطيارون الإثيوبيون موقفاً شجاعاً ونبيلاً عندما شعروا لبعض اللحظات بأن رجال الأمن قد يعتقلونني. فقد أعلنوا لسلطات الأمن في المطار ولغيرهم ممن كانوا يمعنون في استفزازي ويريدون اعتقالي أنني أحد أفراد الطاقم، وأن الطائرة لن تبرح أو تقلع من مطار عدن إلا باكتمال طاقمها. وهذا الإصرار من جانب الطاقم الإثيوبي، وعناية الله، وبعض الحظ، بالإضافة إلى سحنتي التي تشبه سحنة الإثيوبيين، أنقذت حياتي، ونجوت بسلام من ذلك الفخ المنصوب، وحمدت الله كثيراً بعد أن أقلعت الطائرة من جديد».

احتجاج الرئيس الجبيبوتي على اختطاف الطائرة

و يسترسل الرئيس ناصر في حديثه قائلا:" على أثر تلك القرصنة الجوية، أدلى مصدر مسؤول في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني «القيادة الشرعية»، وهي الصفة التي أطلقناها علينا بعد خروجنا من عدن، بتصريح أدان فيه هذه العملية، وقال: «إن هذه القرصنة الجوية التي تحدث لأول مرة في المنطقة قد عرضت حياة الركاب الآمنين للخطر، وألحقت إساءة بالغة بجمهورية جيبوتي الشقيقة وبالعلاقات الأخوية بين الشعبين الشقيقين، تلك العلاقات التاريخية التي تعززها روابط الأخوة العربية والإسلامية والتي شهدت نمواً مطرداً خلال السنوات الماضية».
احتجّ الرئيس الجيبوتي حسن جوليد على اختطاف الطائرة التي كانت مستأجرة لمصلحة الخطوط الجيبوتية، وعندما قابله وزير المواصلات صالح مثنى قال له: «إحنا زعلانين منكم عندنا طيورة واحدة فقط وتخطفوها، استحوا على أنفسكم ولا تفاهم معكم».
وكان الرئيس منغستو قد حذرني من التحدث بالتلفون أو السفر جواً بين أديس وصنعاء، وصنعاء ودمشق، وكان عليّ أن أعتبر التلفون العدو الأول. فمن طريقه اغتالت إسرائيل عدداً من القادة والمجاهدين الفلسطينيين.
واتصل الرئيس علي عبد الله صالح بحيدر العطاس وأبلغه استياءه لاختطاف الطائرة، وفي موقف تحدٍّ قال: سأعطيه طائرة خاصة يسافر بها من صنعاء إلى أديس والمرور بها في أجواء عدن.


زيارة سرية

يتحدث الرئيس ناصر وهو مفعما بقوة الذاكرة بعد رحيله من صنعاء وقال :" في منتصف شهر أيلول/سبتمبر 1990م وكنت في منطقة جبلية في اللاذقية، في قرية اسمها «دباش»، بعد أن أجبرت على مغادرة صنعاء من قبل الحزبين الحاكمين في اليمن، وانتقلت للعيش في القطر السوري الشقيق. إثر صفقة سرية جرت بين حكام عدن وصنعاء عشية الاتفاق على إعادة توحيد اليمن.
في هذا الوقت، وصل إلى دمشق شقيقي «سليمان»، والتقيته في «دباش»، وكانت هذه هي المرة الأولى التي نلتقي فيها منذ أحداث كانون الثاني/يناير 1986م، حيث التجأ إلى السفارة الإثيوبية في عدن، وظل فيها حتى تحريره وخروجه منها في شهر حزيران/يونيو 1990م مع اثنين آخرين من رفاقه.
أما الدفعة الأولى، فقد تمكنت من الخروج ومغادرة السفارة وعدن كلها في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1986م إثر وساطة شاقة قادها الإثيوبيون مع سلطات عدن، وأشرف عليها الرئيس منغستو شخصياً، وكان من بينهم ابني (جمال). كنت أشعر بفقد كبير لشقيقي سليمان، فقد كان أصغر مني، وربطت بيننا ذكريات الطفولة والصبا، ثم النضال المشترك، وكان قد اعتقل في فترة الاحتلال البريطاني في سجن المنصورة مدة عامين. كنت معجباً بشجاعته، وثمة ذكريات كثيرة تجمع بيني وبينه، وقد تحدثت عنها في غير مكان وبينما كنا نتبادل الأحاديث، ونتوغل في الذكريات البعيدة والقريبة تتلو إحداها الأخرى، جاء من صنعاء رسول يحمل رسالة من عبد الله غانم (ممثلي الشخصي)، تشرح الاتصالات التي أجراها مع السفير الإثيوبي في صنعاء والتي كلفت الرئيس منغستو القيام بها، وفي نهايتها طلب الرئيس منغستو مني أن أقوم بزيارة سرية لإثيوبيا.

أديس مرة أخرى

ويضيف الرئيس ناصر بقوله :" كتبت في دفتري اليومي ما يأتي عن هذه الزيارة: انتقلت اليوم 5/10/1990م من دمشق إلى أديس أبابا بطائرة سورية خاصة (T.U.134)، وقد استقبلت استقبالاً حاراً وودياً ونزلت كالعادة في منزلي الذي خصصه لي صديقي الرئيس منغستو . وهذا القصر كان يسكنه رئيس الوزراء في حكومة هيلا سلاسي الذي كان متزوجاً ابنة الإمبراطور. وهو منزل جميل، ويطلّ على وادٍ جميل، تحيط به حديقة خضراء، بل غابة لا تسمع فيها إلا زقزقة العصافير وحركة النسانيس الخفيفة فوق الأشجار، وهي تنتقل من شجرة إلى شجرة، ومن غصن إلى غصن بخفة مذهلة، وتتجمع النسانيس بسرعة البرق عندما ترمي لها بقطعة خبز، وتتلاشى عنها حالة الخوف والحذر من الإنسان. ولعلها تنسى حذرها عندما تبدأ بالتصارع فيما بينها على قطعة الخبز، والذي يلتقط الخبز يفرّ هارباً. وبحكم العلاقة بين القوي والضعيف لا يجد الأضعف أو الأصغر ما يأكله إلا إذا كانت الأم قريبة منه وأولته بعض اهتمامها، إلا أنها هي أيضاً في خضمّ الصراع من أجل قطعة الخبز قد تنسى صغيرها. وتشارك في هذه المعركة الغربان والطيور الجارحة الأخرى. وإذ يشاهد المرء ساحة الصراع هذه بين هذه الحيوانات والطيور، يسرح لا شعورياً نحو ساحة الصراع بين بني البشر... وهذا يشبه إلى حد كبير حمامات سودلري وحدائقه، فعندما يأتي السائح أو الزائر إليه ويترك أمتعته وحقائبه تختطفها النسانيس وتتسلق الأشجار الطويلة التي تطلّ على نهر هواش، فتفتحها، فإذا وجدت أي مأكولات أكلتها ورمت بمحتوياتها قطعة بعد الأخرى في نهر هواش، وإذا كان صاحب الحقيبة أو صاحبتها لا يجيد السباحة يأخذها التيار، ولهذا فالمرشدون السياحيون ينبهون الزائرين إلى عدم ترك أمتعتهم حتى لا تسرقها النسانيس التي تتسلى بها والناس يتفرجون عليها.


السكن الجميل

ويواصل الرئيس ناصر بقوله " كان السكن، كما أشرت جميلاً، أشرف على تصميمه مهندسون أجانب وجُلب له الرخام الإيطالي الفاخر وكذلك الإنارة. أما من الخارج، فهو تحفة فنية آية في الجمال والتنظيم والترتيب. وقبل أن ننتقل إليه من «قصر الشعب» الذي كان يسكنه الإمبراطور هيلا سلاسي وهو نسخة مصغرة من قصر برمنغهام في لندن، والذي مكثنا فيه بعد الأحداث نحو خمسة أشهر - أشرف الرئيس منغستو شخصياً على ترتيبه، ثم رافقني إلى هناك حيث أصبح - المسكن - مقري في أديس أبابا منذ ذلك الحين، وهناك كان يزورنا الرئيس منغستو باستمرار كلما كنت فيه. وهذا المنزل أكبر وأضخم وأوسع من منزل منغستو المتواضع. وذلك ليس غريباً على رجل كريم وكبير وعظيم عظم حضارة الشعب الإثيوبي العريق. وكانت الملاحق تكفي لسكن 30 شخصاً، ويعمل فيه أكثر من 25 شخصاً يشرفون على نظافته وحدائقه ووروده، وكان أشبه بالغابة من كثرة الأشجار الطويلة حوله.


اللقاء مع منغستو

وفي حديثه لـ(عدن الغد) يضيف الرئيس ناصر" التقيت الرئيس منغستو في مكتبه، واقفاً، مبتسماً، صحيحاً كالأسد في عرينه. وحوله في قصر الدولة الجديد عشرات المساعدين والموظفين يتحركون كخلية النحل، ولكنك لا تسمع لهم صوتاً. وحول القصر يقف الحراس بأسلحتهم لحماية قائد الدولة ورمزها. وجدته أكثر حيوية ومعنوياته عالية بعد الأحداث العاصفة والمؤامرة التي تعرض لها العام الماضي بعد مغادرته أديس أبابا إلى برلين للقاء الرئيس الألماني إريك هونيكر.
ومضى الرئيس ناصر يقول :" آثار الجروح لا تزال تلاحقه، وذكرياته المؤلمة ما زالت ماثلة. فقد كانت الضربة مؤلمة لأنها جاءت من أقرب الناس إليه بعد التقارب بين موسكو وواشنطن. وكما قال جمال عبد الناصر: «إن ضربة الصديق تمزق القلب، وضربة العدو لا تصيب إلا خلايا الجسم الحي».
تحدث منغستو عن هذا الموضوع بمرارة بعد الترحيب بنا بعد غيابنا أكثر من عامين جرت خلالهما أحداث جسام. فقد جرت أحداث عاصفة سقطت فيها المنظومة الاشتراكية، واعتقل وأهين صديقنا الرئيس هونيكر آخر القادة المحترمين في المعسكر الشرقي، وانهار حلف وارسو، واهتزّ الوضع الداخلي في الاتحاد السوفياتي الذي فقد هيبته ومكانته وأصدقاءه في العالم. واهتزّ وضع صديقنا فيديل كاسترو في الكاريبي بعد أن تخلى عنه حلفاؤه. ولم يبق من هذا الحلف سوى شعاره الذي أصبح جزءاً من التاريخ. وأتذكر أن الوزير صالح مصلح، وزير الدفاع، كان يتحدث مع عبد الفتاح إسماعيل عن جبروت الاتحاد السوفياتي وهزيمة الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وانتصار الاشتراكية، وكان يعلق ساخراً أنني أخشى أن تنهزم المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي وأن يجري اختراقها من داخلها على طريقة سارق الصوف، وكان يشير بذلك إلى الرئيس السوفياتي الجديد غورباتشوف صاحب نظرية البيروسترويكا، أي إنه سينهار دون حروب، وهذا ما حدث فعلاً.


الحديث عن الوضع في شمال إثيوبيا والشرق

ويتابع الرئيس ناصر حديثه قائلا" اختلّ الوضع الدولي وميزان القوى لمصلحة الغرب. واحتلّ العراق الكويت، ودخلت آلة الحرب والدمار إلى منطقتنا. كل هذه العناوين كانت بحاجة إلى بحث مستفيض إضافة إلى أوضاع اليمن وإثيوبيا. وقد بدأ الصديق منغستو حديثه بكلمة مؤثرة قال فيها: «إنك الصديق الوحيد الذي أحببت أن أتشاور معه في أمور كثيرة وخطيرة ومهمة، ولهذا طلبتك وطلبت من الطائرة السورية التي أقلتك من دمشق إلى أديس أبابا العودة حتى نتمكن من بحث كل القضايا ونجد الوقت الكافي لذلك».
تحدثنا في ذلك اللقاء عن مختلف الأمور المهمة تقريباً، عن الوضع في شمال إثيوبيا ومصوع والشرق، وعن الأوضاع في السودان واليمن والجزيرة والخليج ومصر وسورية، والموقف من التطورات الخطيرة وكيفية مواجهتها بالتعاون مع الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس المصري حسني مبارك ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ومع خادم الحرمين الشريفين فهد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية والدول الإقليمية والقوى الدولية. وتحدثنا عن ضرورة الحفاظ على وحدة الدول المطلة على البحر الأحمر من أجل الحفاظ على الأمن فيها. واتفقنا على ضرورة التحرك إلى هذه الدول وتوسيع اتصالات إثيوبيا بالمنطقة والقيام بنشاط دبلوماسي حتى تظل إثيوبيا في دائرة اهتمام دول المنطقة، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ منها. وهو ما يتطلب حضوراً دائماً وناشطاً وديناميكية أكثر من أي وقت مضى، وباعتبار أن السعودية ومصر من الدول الأكثر تأثيراً في الأحداث في المنطقة، فقد اتفقنا على أن العمل مع هاتين الدولتين سيخلق وضعاً جديداً لمصلحة إثيوبيا، بما يساعد على حلّ المشكلة الإريترية. ووقع اختيارنا على هاتين الدولتين نظراً إلى انحياز السودان في حرب الخليج إلى جانب العراق. والوضع في اليمن ليس بأفضل منه، نتيجة موقف القيادة اليمنية من حرب الخليج وموقفها المؤيد للعراق، ما أفقدها قدرة التأثير في الأحداث، بالإضافة إلى الوضع الداخلي، والانهيار الاقتصادي، وظهور مشكلة المغتربين العائدين من السعودية ودول الخليج، بعد اجتياح الكويت، الأمر الذي أضاف عبئاً جديداً على الأوضاع الاقتصادية السيئة أصلا


مؤامرات الجنرالات السوفيات

ويواصل الرئيس الاسبق ناصر في حديثه لـ(عدن الغد) حول لقائه بالرئيس الإثيوبي منغستو وقال" ذات مساءً تناولنا عشاءنا على مائدة الرئيس منغستو في منزله المتواضع. وحضر معي حفلة العشاء سليمان ناصر محمد وعوض الحمزة. تطرق الحديث الذي استغرق نحو أربع ساعات كاملة إلى العديد من الأمور، لكنه تمحور بدرجة رئيسة حول محاولة الانقلاب التي دبرت ضد الرئيس منغستو في نهاية عام 1989م في أثناء زيارته برلين والتي حاكها خبراء سوفيات مع بعض العسكريين الإثيوبيين. كان واضحاً أن تلك الأحداث تركت في قلبه ونفسه جروحاً لن تمحى، فقد أخبرني بملابسات ذلك الانقلاب، فقال إنه طلب من القيادة السوفياتية إرسال فريق عسكري من الجنرالات في مختلف التخصصات لتقييم الجاهزية القتالية للقوات المسلحة الإثيوبية وتحديد متطلباتها، من الأسلحة والمعدات والذخائر. وكانت مهمتهم قد تحددت بفترة ثلاثة أشهر. ونظراً إلى انشغاله بالأمور الداخلية وسير المعارك، فقد مكث الفريق في أديس أبابا أكثر من عام حتى قيام الانقلاب الذي شاركوا فيه بخبراتهم وحشدهم لبعض الضباط الذين كانوا محسوبين على موسكو. وقد اختفى هؤلاء الجنرالات السوفيات، وعددهم تسعة بعد إخفاق الانقلاب في مبنى وزارة الدفاع، ولم يخرجوا منه، ولم نفكر، يقول منغستو، في أنهم مختفون هناك. وفجأة قرر أحد الضباط فتح هذا المكتب ليسأل عن الخبراء السوفيات الذين جاؤوا للمساعدة وتقديم الخبرة والمشورة، لكنهم رفضوا أن يفتحوا له الباب. سمع الضابط بعض الأصوات، فاعتقد بوجود متمردين داخل المكتب، ففتح الباب عنوة واكتشف وجود الجنرالات في داخله، وكانوا في حالة سيئة بعد أن انقطع عنهم الشراب والطعام والتدخين والماء، حتى إنهم لم يتمكنوا من دخول الحمام لقضاء حاجتهم، وكانت الروائح الكريهة والعفونة تنبعث من المكتب ومن ملابسهم. وكان موقفاً مخزياً ومقززاً ومقرفاً، وكانت دموعهم تختلط بقذارتهم، هكذا كان يصف منغستو وضعهم. وهم بهذه الوضعية، قام أحدهم ليقول:
لقد تورطنا في هذا الانقلاب، ولكننا لسنا مسؤولين عما جرى، لكن القيادة في موسكو هي التي دبرت الانقلاب، باعتبار أن أديس أبابا انحرفت عن الخط الأممي، ومنغستو قائد شوفيني يجب أن نتخلص منه، ولهذا أقرت قيادتنا بقاءنا مدة أطول للعمل على إطاحتك.

محاربت الإمبريالية والرجعية

ويقول الرئيس ناصر في حديثه قائلا:" ردّ منغستو: ماذا فعلت لكم من سوء؟ لقد فتحت لكم إثيوبيا والقرن الإفريقي، وحاربت نيابة عنكم الإمبريالية والرجعية، وخسرت كثيراً من أصدقاء إثيوبيا في المنطقة وأنتم تتآمرون عليّ... إنني أعتزّ بتاريخي وبشعبي، وأعتزّ بأن أكون قائداً قومياً إفريقياً. شوفينياً، إذا كانت هذه هي الشوفينية. طلب نقلهم على الفور إلى موسكو في الحالة التي وجدوهم عليها، بأوساخهم وقاذوراتهم!!
من جانبي، تحدثت معه عن لقائي الرئيس الشاذلي بن جديد الذي أكد أن السوفيات يُعدّون لانقلاب على منغستو، وذكر لي بعض الأسماء والقوى التي ستشارك في هذا الانقلاب، وأنه استقى معلوماته من المخابرات الفرنسية عبر أجهزتهم، وطلب مني إبلاغ هذه المعلومات بشكل عاجل إلى الرئيس منغستو. وبالفعل، أرسلت إليه الأخ صالح حسن محمد، عضو اللجنة المركزية لينقل إليه رسالة شفوية بهذا الشأن، وقد وصل إلى أديس في اليوم نفسه الذي غادر فيه منغستو إلى ألمانيا، وبعد مغادرته أُعلنت المحاولة الانقلابية، وقد اتصلت بالأخ صالح لأستفسره عما يشاع في أجهزة الإعلام، وقال: سأردّ عليك، وأبلغني بعد ذلك أنه زوبعة في فنجان، وأكدت له أن لدينا معلومات من مصادر أخرى أن الوضع خطير في أديس، فقال إنه سيتصل بي مرة أخرى وقد اتصل وقال: قضي الأمر، وكان الرئيس علي عبد الله صالح يتصل بي أولاً بأول ليعرف مصير هذا الانقلاب ومستقبل منغستو وأين سيقيم، وأنه سيرحب باستقباله واستضافته في صنعاء، وقلت له إن صالح حسن محمد قال لي إنها زوبعة في فنجان، ثم قال في مكالمة أخرى: وقضي الأمر فيه الذي تستفتيان، فقال لي الرئيس علي عبد اله صالح: لماذا يتحدث بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب المقتضب ويشرح لك الموقف بكلمتين؟ فقلت له إنني فهمت من مكالمته أن الأمور قد حسمت من قبل أنصار الرئيس، وفي مقدمتهم قائد حراسته، وضحك وقال: سننتظر وستستضيفه إذا رغب، ولكن منغستو عاد إلى أديس لاستكمال السيطرة على الموقف كما أشار في حديثه معنا آنفاً.

اتفاق بين (CIA) والـ (KGB) والموساد

وقال الرئيس ناصر :" أكد الرئيس منغستو أنه جرى اتفاق بين (CIA) والـ (KGB) والموساد على إسقاط الإيديولوجيتين التقدمية بشكل عام والأصولية بمباركة غورباتشوف والرئيس بوش الأب، وأن هذه الخطة نوقشت في لقاء مالطة نهاية عام 89م، وأن الضربة القادمة سوف توجه إلى أي نشاط للأصوليين، بمن فيهم إيران التي ما زال موقفها غامضاً وغير واضح حول الجزر في الخليج والعلاقة بالغرب.
وتحدثنا في ذلك المساء عن نجاح إطلاق آخر دفعة من اللاجئين اليمنيين إلى السفارة الإثيوبية في عدن عقب أحداث 13 كانون الثاني/يناير 1986م، وكان شقيقي «سليمان» واحداً منهم، وكان يحضر معي العشاء هذه الليلة مع الرئيس منغستو. وتطرق الحديث إلى الظروف والصعوبات التي واجهت الإثيوبيين جراء هذه القضية المعقدة، حيث بذلت سلطات عدن كل ما في وسعها واستماتت في سبيل اعتقالهم، لكن الإصرار الإثيوبي حال دون ذلك، إلى درجة أن الرئيس منغستو هدد صراحة الرئيس حيدر العطاس عند لقائهما في مؤتمر هراري لدول عدم الانحياز قائلاً له بما معناه إنه إذا أصاب «جماعة السفارة» أي مكروه فسوف تضطر إثيوبيا إلى اتخاذ موقف ضد حكومة عدن.
ومضى الرئيس ناصر قائلا:" في اليوم التالي، زارني الرئيس منجستو في مقر إقامتي، ثم صحبني بسيارته إلى قصر الشعب حيث اجتمعنا في كوخ صغير تغطيه الأشجار الخضراء أمام مسبح القصر.. وواصلنا حديثنا عن استخراج النفط في اقليم أوجادين وقال أنه عندما اكتشف الخبراء الروس النفط في منطقة (اوجادين) أخفوا ذلك عنا وبعثوا ببرقية إلى سفيرهم في «أديس أبابا» تقول : «بلغوا موسكو أننا اكتشفنا النفط.. بلغوا موسكو ولا تشعروا القيادة الإثيوبية!»
قمنا باصطياد البرقية وحل شفرتها. ثم استدعيت السفير السوفييتي في أديس، وعرضت عليه نص البرقية، وقلت له: مثل هذا الخبر السعيد كان من المفروض أن تزفوه لنا أولاً، وبعد ذلك تبلغوه لمن شئتم في موسكو! وطلبت منه مغادرة بعثتهم التي تنقب عن النفط في «أوجادين» الأراضي الإثيوبية خلال 24 ساعة فقط..
والسؤال لماذا أخفوا خبر استكشاف النفط عن الاثيوبيين ولماذا لم يستخرجوا النفط في اليمن الديمقراطية على حدود السعودية والتي قال عنها بريجنيف في لقائي الاول معه في 8 مارس 1973 أن رمال الربع الخالي على حدود السعودية تسبح على بحيرات من النفط، وقد انسحبوا من اثيوبيا واليمن كما انسحبت قبلهم شركة سونترك الجزائرية التي كانت تنقب عن النفط في الجنوب واتذكر حديثا لأحد سفراء الجزائر أنه قال لي أن الشركة لن تستخرج النفط حتى لا يكشر الاسد عن أنيابه واليوم يتحدث الخبير الاستراتيجي أنور عشقي عن هاتين المنطقتين بالذات وأن فيهما أكبر الحقول النفطية واتضح من كلامه أن الوقت لم يحن لاستثمار هذين الحقلين وغيرهما من الحقول النفطية في اليمن واثيوبيا وغيرها من المناطق حتى يتفق الكبار وأشار الى ضرورة توفر الاسباب التالية:
تحقيق السلام بين العرب واسرائيل
تغيير النظام في ايران.
وحدة مجلس التعاون الخليجي
تحقيق السلام في اليمن واحياء الميناء الحر في عدن.
انشاء قوة عربية اوروبية لحماية الدول العربية
السرعة في ارساء القواعد الديمقراطية في الدول العربية
العمل على ايجاد كردستان الكبرى بالطريقة السلمية لإيقاف الخطر الايراني والتركي والعراقي.
وبعد ذلك شكرت الرئيس على حديثه واستضافته وكرمه انتقلت بعدها مع مرافقي إلى «سولدري»، وهي منطقة حمامات معدنية دافئة مناخها رائع. وأقمنا في القصر المطل على نهر «هواش» وعلى واحة خضراء جميلة وهو أحد قصور الامبراطو هيلاسيلاسي.. وكتبت عن هذه الرحلة في دفتر يومياتي ما يلي: «اليوم سبحنا ونزلنا إلى الحمامات والسونا، ثم جلسنا عند نهر هواش في واحة خضراء جميلة، وكانت فتاة تلبس اللباس الأثيوبي الأبيض تجلس أمامنا وهي تعد القهوة وتنظر نحونا بعينيها العسليتين وضفائرها المجدولة بصورة فنية رائعة،وأخذنا نشم رائحة البن واستنشاق الدخان المتصاعد من الحبات الملتهبة وذلك يعني أن رائحة البن المحمص تريح الأعصاب ويشعر الإنسان وقتها بالنشوة تماماً مثل رائحة البخور، ثم تصب في الفناجين وتقدم القهوة للضيوف التي أخذ اسمها من أكبر الأقاليم الحبشية المشهورة بإنتاجها وهو إقليم كافا kafa ومن عادتهم نثر الأعشاب الخضراء عند مدخل البيت والموقد وكذا رائحة البخور من اللبان لطرد الأرواح الشريرة كما يعتقد الأفارقة.

عدن الغد