العميد علي الشيبة يكتب عن صديقه ورفيقه العميد حسين الشرجاني
في ذكرى رحيله السابعة تذكر القيادي في المجلس الانتقالي الجنوبي رفيق دربه وصديقه العميد حسين الشرجاني...
بعض الناس يشكلون روح المدينة ، ويوم يغادرون الدنيا ، تشعر بأن روحك تغادر معهم .. بل ان المدينة تفقد بعض روحها . هذا ماكانه الفقيد محمد سعيد مديحج لحضرموت و لغيل باوزير بالذات وبوفاته في31يوليو 2020 ، في نفس الشهر الذي ولد فيه فقدنا تلك الروح ..
معلم قدير وأستاذ جيل ، تتلمذ على يديه اجيال ، وتربوي شغل العديد من المناصب في المعارف والتربية والتعليم ، ودبلوماسي مخضرم شغل مناصب عديدة في وزارة الخارجية وفي اليونسكو وفي سفارات عدة في الشرق والغرب .
من حيث الميلاد ينتمي إلى رحبة بن جنيد التي ولد فيها في 19 يوليو سنة 1930م ، والشحر كماهو معروف من اشهر مدن حضرموت قديما وحديثا . . والشحر مدينة تذكرك بماض عريق . مدينة كتبت اسمها في التاريخ . حلت مكان ميناء قنا القديم في بداية العصر الإسلامي ، وادت دور بوابة حضرموت على المحيط الهندي لأكثر من الف عام . وكانت إحدى ممالك شبه الجزيرة العربية وأهم المنافذ البحرية بين عدن وعمان وبين الساحل الجنوبي لجزيرة العرب وافريقيا والهند ، قبل ان يؤول هذا الدور إلى مدينة وميناء المكلا ، لكن ظلت الشحر حاضرة دوما في التاريخ في السياسة والثقافة والفن . في هذه الشحر ذات التاريخ العريق والمجد التليد ، ولد محمد سعيد مديحج ، وعاش طفولته وتلقى تعليمه في مدرسة مكارم الأخلاق ، والابتدائية في مدينة المكلا ، وجزء من الوسطى فيها ، وكان من حسن طالعه انه كان من تلاميذ الدفعة الثالثة الذين نقلوا إلى المدرسة الوسطى في غيل باوزيرحين تأسيسها سنة 1944م ، هنا سيصنع قدره منذ تلك اللحظة ، وربما مذ ذاك صار هواه غيلي " نسبة إلى غيل باوزير " التي يشد إليها الرحال كل من اراد التزود بالعلم ، مثلها مثل تريم في القديم ، وكانت المدرسة الوسطى بغيل باوزير ذات مكانة علمية مرموقة وشهرة واسعة ، فكان مديحج من اوائل الذين درسوا في ( المدرسة الأم ) كما اطلق عليها وأرخ لها في كتابه التوثيقي ( المدرسة الأم .. الوسطى. - غيل باوزير ) ووسطى الغيل لاتشبه اي وسطى ، فهي تتميز بمنهاج قوي ونظام صارم ، وضمت نخبة الطلاب من كل مدارس حضرموت ، وغدت بحق احد المشاعل التي مهدت الطريق لبروز مجتمع حديث في جوانبه التعليمية والثقافية منذ تأسيسها ، وفقا لخطة انجليزية وضعها المستر قرينس عميد معهد بخت الرضا في السودان عام 1938 لتحديث التعليم ، الذي سيلتحق به تلميذنا النابغة محمد مديحج ضمن الفوج الثاني من طلاب حضرموت سنة 1949ويتخرج منه سنة 1951 م ، وكان نظام بخت الرضا في السودان ومناهجه التعليمية سائدا في حضرموت ، ولعب المعلمون السودانيون دورا كبيرا في نهضة حضرموت التعليمية ، بل ان اول مدير لوسطى الغيل كان السوداني الأستاذ حسين افندي خوجلي الذي استمرت إدارته عشر سنوات كاملة ، ليبدأ عهد الإدارة الحضرمية بالدكتور محمد عبد القادر بافقيه ، ومن بعده الأستاذ سالم بن يعقوب باوزير ، ليستلم إدارتها الأستاذ محمد سعيد مديحج نفسه في الأعوام 1961م 1965م ، وقبل ذلك ابتعث عام 1959 إلى لندن ليعود بدبلوم التربية والتعليم من جامعة برستل .
ومن حيث الثقافة والحداثة ينتمي مديحج إلى الثقافة الإنسانية بمعناها الواسع .. إلى لبنان ، التي تلقى فيها دورة تدريبية في تخطيط الدول العربية في مقر اليونسكو في بيروت ، وبيروت كما هو معروف منارة للعلم والتفكير الحر والإشعاع الثقافي . وإلى عدن التي كان لايزال فيها بقايا من مدنية ومن تنوير ، وتشق طريقها بين دول العالم بعد الاستقلال ، كعاصمة لليمن الديمقراطية ، وفيها التحق بالسلك الدبلوماسي ، فشغل عدة مناصب في ديوان وزارة الخارجية وتنقل للعمل بين عدة سفارات في موسكو ، وبوخارست ، وبلغراد ، وباريس . وفي كل مدينة كان يتعلم مديحج أشياء ، ويكتسب من ثقافاتها وحضاراتها ومعارفها وحياة وسلوك الناس فيها أشياء ، تشكل وعيه ، وتزداد بهامعارفه وخبراته ، لكن كل تلك المدن في الشرق والغرب على اختلاف ثقافاتها ،وايدلوجياتها ، وأنظمتها السياسية لم تنسه يوما انه ينتمي إلى حضرموت الحضارة والتاريخ والإنسان ..
بعد ان تقاعد بدرجة سفير ، لم يركن إلى الإستسلام لعامل السن ، كمايفعل كثيرون غيره ، فيرضى ان يقضي مابقي من سنوات العمر بين البيت والمقهى ، يلعب الورق ويحتسي الشاي كداب متقاعدي روايات نجيب محفوظ ، بل كرسه لمزيد من العمل المبدع وكأنه لايعترف بالعمر ، او بشيء إسمه سن التقاعد ! بالنسبة لمديحج كانت سنوات التقاعد سنوات عطاء متجدد ، قضاها في خدمة مجتمعه ، وكأنه اراد تعويض مدينته التي أحبها عن سنوات الغياب الطويل في بلدان العالم ، فاسس المركز الثقافي للأنشطة التربوية والتنموية في غيل باوزير ، وحول مدرسته الوسطى إلى متحف ومزار لكل زائر لهذا الصرح التعليمي والتربوي الذي تخرجت منه اجيال من التلاميذ الذين صاروا فيما بعد قادة سياسيين ، واقتصاديين ، ومصرفيين ، ورجال ثقافة وتربية ، ورجال دولة من الوزن الثقيل ، امثال : فرج بن غانم ، وحيدر العطاس ، وعلي البيض ، وفيصل بن شملان ، ومحمد بن همام ، وجمعان بن سعد ، وسعيد النوبان ، ومحمد عبد القادر بامطرف ، وخالد محمد عبد العزيز ، وسالم محمد عبدالعزيز ، وعبد الله صالح البار ، وصالح منصر السييلي ، وعبدالرحمن بأفضل ، وسالم محمد الاشولي ، ومحمدسعيد مديحج نفسه ، والقائمة تطول ..
زاملت المغفور له باذن الله محمد سعيد مديحج في وزارة الخارجية ، في مدينة الشعب في عدن ، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي ، وكنت جئت إليها من عالم الإعلام والصحافة ، بينما سبقني السفير مديحج إلى السلك الدبلوماسي قادما من عالم التربية والتعليم ، فلم تتح لي فرصة العمل معه في سفارة واحدة ، اوحتى في دائرة واحدة ، فقد كانت اهتماماته وخبرته التربوية تجعله يعمل اغلب سنوات عمله الدبلوماسي في الخارج في الملحقيات الثقافية ، او ممتلا لبلادنا لدى اليونسكو ، وكان اخرعمل له في باريس .. لكن الفترة القصيرة التي زاملته فيها في ديوان الخارجية في عدن اعطتني فكرة اي نوع من الرجال هو ، واي طراز من الدبلوماسيين يكون .. وفوق هذا وذاك كان يتمتع بمزايا إنسانية تجعله قريبا إلى القلب فصرنا صديقين بسرعة ، وإن فرقتناسنوات من البعد بعد ذلك. ، بحكم عمل كل منا في بلد بعيد عن الآخر .. لبق ، مرح ، ذو عقل إداري منظم ، وروح قيادية ، وطبعا ثقافة مما لاغنى عنه لكل من اراد العمل في السلك الدبلوماسي . وفوق هذا وذاك يتمتع بروح قتالية في سبيل الحق ومايؤمن به . وقد أظهر هذه الروح القتالية في إصراره وحرصه على حريةو إستقلالية المركز الثقافي ، فنأى به عن تجاذبات التيارات السياسية . ولم يكن ذلك بالأمر السهل ، في محيط تعود على الشمولية حتى وإن ادعى الديمقراطية ، ويريد ان يضم تحت جناحيه منظمات المجتمع المدني . وقد ادرك الاستاذ مديحج انه لن يحقق للمركز هذه الحرية والإستقلالية إلا بميزانية مستقلة مهما كانت ضيئلة ، وقد عانى في سبيل ذلك الأمرين . ومرة أخرى اظهر روحه القتالية بتصديه لفوضى النهب وحمى الإستيلاء التي لم تسلم منها بعض أراضي المركز ، خاصة تلك الواقعة بين السور والمدرسة الوسطى مما اصاب العقول بالجفاف. قبل اشجار الحديقة ! . ولم تخلو التحديات التي تعرض لها من تهديدات لحياته بكواتم الصوت !! كما جاء في مقال للكاتب احمد فرج خنبش ، ممن لايقدرون قيمة الثقافة ولايقيمون وزنا لتاريخ المدرسة و المدينة ، ودورها كاحدى حواضر العلم والمعرفة والتنوير .
ولا الرجل ومكانته العلمية والتربوية .
بعد سنوات لم التقه خلالها ، أتيحت لي فرصة اللقاء به ، وكان ذلك لقائي الأخير به في المركز الثقافي الذي حرص على تأسيسه في غيل باوزير .والفضل في اللقاء يعود إلى الأستاذ خالد محفوظ بحاح وزير النفط حينها ، وكان في زيارة قصيرة لحضرموت ، رافقته فيها بدعوة كريمة منه ، زرناخلالها بالإضافة إلى الغيل ، المكلا ، والشحر ، وبلدتنا الديس الشرقية ، وقصيعر . طاف بنا الأستاذ مديحج في ارجاء المركز الثقافي - المتحف ، وكان هونفسه دليلنا العارف باسراره ومحتوياته ، حافظا لكل قطعة مهما صغرت لمقتنياته عن ظهر قلب ، وكان وهو يشرحها لنا ، يشيع في المكان تلك الروح المرحة والكاريزما الطاغية .. أذكر انه وقف بنا مطولا امام لوحة الشرف أو مصنع الرجال ، وكأنه يتيح لنا متسعا للتأمل في الأسماء ، والتمعن في الدلالات ، فكثير من اصحاب هذه الأسماء التي تعلمت في وسطى الغيل ، صاروا اعلاما وقادة في كثير من مجالات الحياة ، ومنهم رؤساء دولة ، وحكومات ، ووزراء ، وسفراء ، وتربويين ، ورياضيين ، وفنانين الخ ... بحيث انها تستحق لقبها : ( مصنع الرجال ) وكنت حتى وإن لم يقل ذلك ، اشعر كم هو ممتليء ، بالافتخار والإعتزاز انه تلميذ هذه المدرسة الوسطى ، واصبح مدرسا فيها ومديرا لها ، وهاهو يحيي ذلك الإرث والصرح التعليمي العظيم قبل ان تمتد إليه يد الإهمال ، فيجعله في متناول الأجيال الجديدة جيلا بعد جيل .
ولأنه صاحب روح مبادرة فقد اسس سنة 1972م حديقة روضة الأطفال في المكلا ، هي الأولى في حضرموت ، وكاني به اشتاق إلى طفولته ، ذلك الطفل الذي يعيش داخل كل منا و يأبى ان يكبر ابدا ! فاراد ان يقيم حديقة وروضة يسعد الأطفال من خلالها . وكأني به اشتاق إلى روح المعلم فيه ، بعدما راى مااصاب التعليم من ضعف قياسا بتعليم زمان ..ايام وسطى الغيل ، وبخت الرضا .. ومايتعرض له المعلم من إهمال فلم يعد يلقى التقدير من المجتمع ، ولا صارت له نفس الهيبة من تلاميذه كما كان المعلمون الأول ..!!
ترجل محمد سعيد مديحج ، ورجعت النفس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية ، وندعو الله ان يدخلها في عباده وجنته .. سنفتقد تلك الروح الخلاقة التي اعطت وطنها ومدينتها والناس بدون حدود ...