جذور المشروع الصهيوني وضياع "القدس" العربي

في لحظة إنتقال المشروع الصهيوني من مرحلة الكمون الثقافي إلى مرحلة الإعلان والتجربة في نهاية القرن التاسع عشر كان العالم العربي حينذاك واقعاً تحت إحتلالين، إحتلال تبعية عثمانية وإحتلال غربي أي بريطانيا وفرنسا، والغريب أن الدولة العثمانية لم تكن قوية وحازمة للدفاع عن الأقطار العربية ضد الغرب لأنها باتت ضعيفة وأصبح الغرب ينظر إليها على أنها وليمة أوروبا، أو كما عبرت كتب التاريخ خطأ بأنها "رجل أوروبا المريض" على الرغم من أنها لم تكن دولة أوروبية في يوم من الأيام وإنما كانت لها ممتلكات في البلقان لذلك عمل الغرب على تحجيمها لإعتبارات دينية، على إثر ذلك اختارت الدولة العثمانية أن تدخل الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والإمبراطورية "النمساوية – المجرية" فتدخلت الولايات المتحدة لدعم معسكر دول الحلفاء كما فعلت تماماً في الحرب العالمية الثانية فكان سقوط الدولة العثمانية إيذاناً بإلتهام الدول الغربية للعالم العربي بدليل أن إتفاق "سايكس – بيكو" في 19 مايو أيار العام 1916م كان مبنياً على اختفاء الدولة العثمانية الذي يعد نقطة أساسية من أجل تحرر المشروع الصهيوني وانطلاقه حيث كان البعد الديني ظاهراً في سياسات الدول الغربية رغم تنكر بعض التيارات السياسية والتاريخية في العالم العربي الموالية للغرب لذلك.


ازدهر المشروع الصهيوني بعد سقوط الدولة العثمانية مبكراً واستجاب العرب لدعوة بريطانيا بالإنضمام إليها للقتال ضد الدولة العثمانية فيما أسمتها كتب التاريخ بثورة الشريف حسين ضد تركيا أو ما سمى بالثورة العربية الكبرى، وكانت تلك خديعة مزدوجة للعرب وللشريف حسين ظهرت حقائقها فيما بعد، بعدها جاءت المحطة الهامة التالية وهي تعهد بريطانيا بتنفيذ المشروع الصهيوني من خلال خطاب اللورد "آرثر بلفور" وزير الخارجية البريطاني وهو المعروف في كتب التاريخ العربى بوعد بلفور وهو ليس وعداً وإنما تعهداً من طرف واحد.


يؤكد عدد من المؤرخون بان هذا الإعلان كان مخادعاً لأنه وخلال الإحتفال بمرور مائة عام على مروره اي إعلان بلفور أعربت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة "تيريزا ماي" عن اعتزازها بدور بريطانيا العظمى في المشروع الصهيوني الذي تسلل إلى المنطقة العربية بمساندة بريطانيا ومن خلال اشاعة التدليس والغفلة بين العرب وليس أدل على ذلك من أن الإعلان تضمن تعهد بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود، ومعنى الوطن القومي أكثر بكثير من مجرد استيعاب اليهود مع الفلسطينيين على أرض فلسطين لأن المشروع الصهيوني بني أساساً على فكرة مركزية وهي أن اليهود تفرقوا بين شعوب الأرض وأن عدم التعايش مع هذه الشعوب راجع إلى تميزهم وعبقريتهم مقابل غباء بقية الشعوب ووحشيتها وأن الحل الأمثل هو تجميع اليهود في كيان واحد بعيداً عن الأغيار وهذا هو لب قانون الكنيست الذي صدر في العام 2017م حول الدولة القومية اليهودية الخالصة التي لا تقبل بين ظهرانيها أقليات غير يهودية، وأعقب الإعلان تأكيد الدور البريطاني بإنشاء نظام الإنتداب حيث صارت لندن مسؤولة عن رعاية المشروع ونموه حتى يقف على قدميه من خلال قرار التقسيم ثم بإنشاء دولة إسرائيل ثم بقهر القوات العربية غير المتجانسة والتثبيت الصهيوني في فلسطين وعضوية الأمم المتحدة، وفي نفس الوقت الذي كانت الأمم المتحدة التي رعت قيام إسرائيل وتتلطف مع ضحاياها أصدرت قرار عودة اللاجئين مما يدل على اختراق المشروع الصهيوني للدوائر العالمية السياسية وعدم جدية الأمم المتحدة بإعتبار أنها تنظيم يخضع للنظام الدولي الذي يشكل سياسات هذا التنظيم، وصار واضحاً للمراقبين بأن قرارات الأمم المتحدة باتت تقرأ على سياقين، السياق الأول أنها كانت الغطاء الملطف لتمدد المشروع الصهيوني، والسياق الثاني أنها قسمت المسألة بين العرب واليهود، فالعرب لهم القرارات واليهود لهم الأرض، لذلك عبرت إسرائيل دائماً عن عدائها للأمم المتحدة وليس هذا التعبير دقيقاً وإنما جزء من المسرحية التي إنطلت على العرب، إلا أن تلك القرارات لا تزال تشكل عقبة قانونية في طريق تنفيذ "صفقة القرن".


وأعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن في كلمته أمام الجامعة العربية بأن الموافقة الفلسطينية على إلغاء هذه القرارات هو من معايير حسن السيرة والسلوك حتى تكتمل بنود هذه الصفقة التي اعتبرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "إنتصاراً للسلام" وللفلسطينيين، في وقت إستغرب مستشاره رفض أبو مازن بينما هي في الحقيقة هدم للقانون والواقع وتغيير في خرائط المنطقة وإنشاء شرق أوسط جديد بلا فلسطين وهي خطة إسرائيلية كاملة قدمها الرئيس ترامب هدية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بحيث يكون توقيت الإعلان عنها رغم أنها تنفذ بهدوء منذ أربع سنوات على الأقل دعماً للأخير ومخرجاً للرئيس ترامب من محنته مع الكونغرس الأميركي الذي كان يلوح بعزله.


وتراجع المؤشر العربي والإسلامي أمام ظهور وبروز وانتصارات المشروع الصهيوني الذي بدأ أولى انتصاراته بإنشاء إسرائيل رغماً عن العرب والمسليمين واستجابة للتوافق "السوفيتي - الأمريكي" ثم وجه المشروع ضغوطه إلى الدولة القائد أي مصر التى كانت صخرة تحبس مقومات الحياة عن هذا المشروع الذي ولد ولادة بيولوجية في العام 1948م ولكنه تطلع إلى مقومات الحياة بعد هزيمتها عسكرياً في العام 1967م ثم هزيمتها سياسياً في العام 1979م فكان هذا هو التراجع الإستراتيجي الأول نتيجة الهزائم العربية والإسلامية (المصرية).


اما التراجع الثاني جاء في العام 1981م في العاصمة المغربية الرباط عندما عبرت القمة العربية والإسلامية عن رغبة العرب والمسلمين في السلام مع إسرائيل بشروط وهي تعلم أن لكل من العرب وإسرائيل مفهوم خاص بالسلام، ثم كانت المحطة الثالثة عندما إستدرج العراق لقتال الدولة الفارسية "إيران" في حرب إستمرت ثماني سنوات، حيث كانت بغداد من الفريق القومي المؤيد لفلسطين مما أدى إلى إستنزاف هذا البلد العربي القومي المسلم ليأتي بعدها إستدراج البلد ذاته وهو "العراق" لغزو دولة الكويت وما ترتب على ذلك الغزو من دمار للقضية الفلسطينية بسبب انحياز الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الى جانب الرئيس العراقي الشهيد الراحل صدام حسين.


بعد ذلك جاء "مؤتمر مدريد للسلام" العام 1991م بداية النهاية للقضية الفلسطينية بحيث لم تعكس نتائجه الإنتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987م بل ترتب عليه "مؤتمر واشنطن" الذي فتح باباً جانبياً في أوسلو التي تعتبر من أكبر محطات المشروع الصهيوني والتراجع العربي والإسلامي، ثم أعقب ذلك غزو العراق وتقسيمه.


وخلال الفترة اللاحقة تهاوت الحقوق الفلسطينية حتى في الخطاب العربي خصوصاً منذ العام 1979م وخروج مصر تماماً من مجمل القوى العربية والإسلامية بل واصبحت بعض هذه القوى معبراً لتسهيل تمدد المشروع الصهيوني مما أدى إلى اختفاء عبارات الشجب والإستنكار والتنديد لدى الخطاب السياسي والإعلامي العربي والإسلامي وحل محلها قرارات ادانة المقاومة الفلسطينية ووصمها احياناً بالإرهاب، كل ذلك كان ايذاناً بالتضحية بمدينة القدس فصار الصراع "العربي - الإسرائيلي" مجرد نزاع "إسرائيلي - فلسطيني"، وصارت مدينة القدس الشريف عاصمة أبدية ودائمة لإسرائيل، وتخلت السلطة عن حق العودة، وتراجعت كل الوعود التي تضمنتها "إتفاقية أوسلو" لصالح سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية مروراً بالجدار العازل واستخفافاً واستهتاراً بقرار محكمة العدل الدولية واستغلالاً لمنصة الأمم المتحدة لإحلال قرار أن الصهيونية حركة عنصرية بقرار أنها "حركة قومية" وتواتر التراجع العربي والإسلامي وإرتفعت شعارات ونداءات التطبيع مع إسرائيل، ناهيك عن إقتطاع الرئيس الأميركي لكل من القدس والجولان وإعتبارها جزءاً من إسرائيل، إضافة إلى نقله السفارة الأميركية إلى القدس والذي يعد تحدياً صارخاً لكل قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، كما ان واشنطن قد اعلنت قبيل الإعلان عن صفقة القرن بان المستوطنات التي أقيمت في الأراضي الفلسطينية تعد مستوطنات مشروعة لكيان الإحتلال وأنها جزء من إسرائيل، وحجبت مساعدتها لوكالة "الأنروا" وتسارعت الأحداث لتكشف أن الصفقة التي تم ترديدها في واشنطن العام 2016م تنفذ بهدوء على الأرض حتى جاء الإعلان النهائي عنها كخاتمة لإكتمال المشاورات بشأنها.


وبعد قرن كامل ونيف ظهر إرتفاع وإزدهار المؤشر الصهيوني وثبات مسيرته بينما تراجع الموقف الفلسطيني ومعه موقف الأمة العربية والإسلامية جراء الضغوط الأميركية الواضحة، لذلك يرى الكثير من المحللين والخبراء والمهتمين بالشأن الفلسطيني بان الولايات المتحدة قد لعبت الدور الأبرز في تثبيت هذا الإستيطان والإحتلال الصهيوني غير المشروع للأرض العربية في فلسطين ولولا واشنطن لما تقدم هذا المشروع قيد أنملة الى الأمام.

مقالات الكاتب