عيدروس ومعادلات الساحل الغربي

مطلع العام ٢٠١٧ اندفع السيل الجنوبي خارج حدوده التاريخية بعد ان استكمل تطهير جميع أراضيه؛ حينها تبدى للكثيرين ان المقاومة الجنوبية  تجاوزت حدود "المقدسات والمحرمات" بعد ان أكملت كتائبها تحرير مدينة المخاء وأخذت تتوغل صوب محافظة الحديدة.


وحينها كنت قد واظبت على زيارة الساحل الغربي في مهمه إعلامية ، وثّقت خلالها بعدسات الكاميرا حماسة المقاتليين الشجعان وهم يرفعون علم الجنوب لأول مرة خارج حدوده التاريخية ، ووثقت ذاكرتي الخاصة إنزالهم للعلم بحيرة شديدة تطوي كثيرا من الأسئلة ..


في مارس ٢٠١٧ عدت من يختل برفقة أحد مقاتلي العمالقة، أخبرني ان انتماءه الجنوبي يطغى على اي شعور آخر ، لكنه لا يجد مبررا حقيقيا للقتال هناك ، باستثناء النزوع الطائفي السلفي.. 


ودون اي مقدمات باشرني بسؤال واضح :" ايش بتستفيد القضية الجنوبية من قتالنا هنا"؟ ،  وهو سؤال تشاركه مجمل الرأي العام الجنوبي لاسيما بعد ان قدمت المقاومة خيرة قياداتها وشبابها في وجه الحوثيين..


وحده عيدروس الزبيدي  من تولى مسؤولية الإجابة مثلما تحمل أكلاف المبادرة ، ومن خلال بيانه الشهير (مارس ٢٠١٧) رسم الخطوط العريضة لسياسة الحراك الجنوبي الذي كان يمثله من موقعه العسكري والسلطوي كقائد للمقاومة و محافظ لعدن.


اليوم يتحرك الزبيدي في واقع مغاير و من موقع مختلف ؛ لم يعد محافظا للعاصمة عدن ، بل أصبح زعيما سياسيا للجنوب أجمع.. لكنه مع ذلك لم يحد عن سكة "بيان مارس" الشهير  .. وعمل على تطوير ما زرعه فيه من بذور استراتيجية شكلت خارطة العمل السياسي الجنوبي، وحددت طبيعة التعاطي "الحراكي" مع محيطه الحيوي محليا وإقليميا ، والذي تطلب قدرا من الوضوح، المرونة والانفتاح ، "فما سُلب من الجنوبيين بالسياسة لا بد من استعادته بالسياسة".


قبل أكثر من عام أطل الزبيدي على جماهيريه عقب تحرير المخا ليقول إن دورهم المحوري هناك هو "واجب أخلاقي تحتمه قيمنا النضالية كمقاومة جنوبية استقام بنيانها وخطابها واستراتيجيتها على أساس مقاومة التسلط ودعم الخيارات الشعبية".. ولم تكن هذه الصراحة من قبيل المراوغة او امتصاص الغضب ، بل كانت توجها استراتيجيا ثابتا تطور لاحقا الى تحالفات سياسية ، والى دعم عسكري قدمه المجلس الانتقالي "للمقاومة الشعبية الشمالية" سواء في الحديدة مع العميد طارق أو في مريس مع عدد من القيادات المحلية..


كذلك دشن "بيان مارس" فلسفة سياسية جديدة لم تعهدها فصائل الحراك ، قائمة على الانفتاح والمرونة دون التفريط بالثوابت الوطنية والاستراتيجية ، وحينها قال الزبيدي  "إن تحركنا في الجبهة الغربية لا يعني مطلقا تفريطنا بثوابت ومطالب شعبنا الأبي وطموحاته المشروعة..بل هو تأكيد عملي على أن تلمسنا للمصلحة الجنوبية لا ينطلق من نظرة انعزالية محدودة وإنما يتسع ليشمل كامل محيطه الجغرافي و اشتراطات الردع الاستباقي".. واليوم يجني الزبيدي ثمار انفتاحه السياسي والميداني بأن أصبح جزءا أصيلا من معادلة الحل الشامل للأزمة اليمنية وبإقرار المبعوث الأممي ، ولم يعد يستنكف الجلوس مع جميع الفرقاء السياسيين لمناقشة قضية الجنوب ، مثلما كانت فصائل الحراك تستنكف ذلك إبان مؤتمر الحوار ، ذلك ان فلسفة العمل الحراكي قد تغيرت مع بروز قيادات جديد من خارج الطبقة السياسية الجنوبية  ، ومع تعدل ميزان القوى الذي أعاد الجنوب شريكا بعد ان كان ضحية.


وبالطبع فإن التخلي عن النزعة الانعزالية ، جعل الانتقالي يعيد تعريف مصالحه السياسية وقضيته الوطنية في سياق الأمن القومي العربي ، وبالتكامل مع مصالح الدول المجاوره ، بما ساهم في تمتين وتقوية التحالفات الاستراتيجية مع الشركاء الإقليميين ، وخطوة كهذه وجدت طريقها الى النور قبل أكثر من عام حينما قال عيدروس "واجبنا الأخلاقي يحتم علينا الانحياز الدائم الى جوار إخوتنا وحلفائنا في دول التحالف العربي..وبيقين تام فإن أمن عدن جزء لا يتجزأ عن أمن الرياض وأبوظبي والقاهرة..وهذه عقيدة سياسية يتشاطرها كل أبناء شعبنا..


لقد أثبتت التجارب أن المصالح الجنوبية تمثل جزءا أصيلا من منظومة الأمن القومي العربي ،وبالتالي فإن انضمامنا الى جوار أشقائنا في المخا هو موقف طبيعي لتلبية واجبنا العروبي ومقتضيات أمننا الذاتي".


هكذا يمكننا ان نفرق بين مرحلتين أساسيين عاشها الحراك الجنوبي ممثلا بالمجلس الانتقالي ، مرحلة المخاض و الولادة والتي استمرت عشرة أعوام وبلغت كمالها في عدن بعد إعلان مايو التاريخي ، ومرحلة النضوج والانفتاح التي بدأت مع معارك الساحل الغربي بالمخا ، وبلغت مرحلة متقدمة مع وصول المعارك الى محافظة الحديدة.


لسنوات طوال ظن الجنوبيون بأن هدف الاستقلال يمكن ان يتحقق بمجرد ان يصبح خطابا عاليا او ممارسة انعزالية  ، ليتحول بذلك شعار الانفصال الى واقع من الانغلاق والتهور .


لكن عيدروس اكد ان الاستقلال الجنوبي انما يتأتى بالاشتباك السياسي في عمق الأزمة اليمنية .. وبات الزبيدي يلوح بتحرير الحديدة مقابل الاشتراك في الحوار ..


وعلى حد قوله "و بدون جدال وبشكل مبدأي ، نحن متمسكون بثوابتنا النضالية و جغرافيتنا السياسية التي تبدأ وتنتهي عند حدود العام تسعين.. لكن واجبنا الأخلاقي وأمننا القومي و الجيوسياسي سيمتد حيث ما توجب علينا الحضور"..


   *رئيس تحرير موقع #البعدالرابع

مقالات الكاتب