المحارب الجسور .. كورونا معركته الأخيرة :د. ياسين عبد الوارث العبسي .. سيرة عطاء وتضحية

ما إن يقع نظرك على خبر رحيل من تعرفه من الناس،  حتى تجد نفسك في حالة من الوجوم والوجد العميق، وتتغشى القلب موجة من الشجن، ولأن الموت حق علينا،  ولا رد لمشيئة الله وقدره،  فهو في ذات الوقت حادث جلل، لما له من الأثر البليغ لدى الإنسان ، خصوصا عندما يكون الراحل من الذين خبرتهم ، بداية تعتريك الصدمة..، لا تصدق أن الموت خطف من تعزهم في لحظة مباغتة، ساعتئذ لا أنا.. ولا أنت..هو أو هي أو نحن جميعا،  نشعر بخسارة فقدانهم، والفراغ الذي تركوه على الصعيد الشخصي والعام،  إلا حينما يتحول الخبر المقتضب إلى فاجعة..ومكانهم إلى فراغ كبير ...! 

   على أن  فداحة الخسارة  تتضاعف، عندما تدرك أن من ذهب ، قد ارتبط بمسيرة عطاء غنية ، عمل للوطن الذي ولد فيه، وترعرع على ترابه، وتعلم في مدارسه ، و تخرج من أرقى الجامعات والمعاهد العربية والأجنبية ، إنسان ينتمي إلى وطنه، فضل البقاء في بلده - في ظروف غير مثالية  وبيئة طاردة للكفاءات - على مغريات الهجرة إلى الخارج ..، وبقي يعمل مع زملائه وبني جلدته ، لرفع مستوياتهم المعيسشية والصحية والتعليمية والاجتماعية والثقافية، ويكون في مقدمة الصفوف عندما يستدعيه الوطن، غير آبه بالمخاطر المحدقة بحياته.

     على رأس هؤلاء الرجال الأوفياء ، يأتي الراحل الكبير الدكتور ياسين عبد الوارث هزاع نعمان، الذي غيبه الموت في صنعاء،  صبيحة الأربعاء 17 يونيو 2020م، عن عمر ناهز( 73) عاما ، متأثرا بإصابته  بوباء كورونا المستجد، وهو يخوض بشجاعة أخطر معاركه الأخيرة في الميدان ضد هذا الفيروس المميت.!

   والأعظم من كل هذا، أن الراحل الدكتور ياسين عبد الوارث، الذي لبى نداء ممثلية منظمة الصحة العالية في اليمن؛ للاستعانة بعلمه ومعارفه،  كأحد أقدم وأبرز الكفاءات والخبرات الطبية في مجال الأمراض الوبائية ، لم يتردد - وهو كبير السن -  كفتى الروح الشبابي، يعمل بإيمان وإخلاص قل نظيرهما، لم تزده السنوات الطويلة إلا إصرارا في أن يتوج محطات  مسيرته المهنية والإنسانية، التي نذر نفسه -حتى وافاه الأجل- في أخطر المواقف وأشدها هولا،  وأعني به جائحة كورونا . 

# أبو الطب الوقائي 


   وبرحليه المؤلم، فقدت الأوساط الصحية والطبية اليمنية والعالمية ،  أحد أعمدتها مجتمعة ، الدكتور ياسين عبد الوارث  بعد رحلة طويلة من العطاء  والتفاني  والإيثار، وهو -أيضا- من أبرز الأسماء اليمنية الشهيرة، التي شعت في السنوات الخمسين الأخيرة. 

     ولأنه كذلك ، فقد تلقى الجميع خبر وفاته بحزن شديد، وهذا ماعبرت عنه بيانات النعي، المنشورة في المواقع الإخبارية والفضائيات اليمنية والعربية ، وعلى منصات السوشيال ميديا..، فوصفه زملاؤه الأطباء" بفارس الأوبئة الشهير والجسور"، الذي ظل يعمل في الميدان بهمة عالية ، دون أن تفتر عزيمته لحظة،  أو "ينطفي شغفه  المتعلق  بعملية الترصد الوبائي، ومكافحة الأوبئة  في البلد " - طيلة عقود من الزمن - بما في ذلك حمى الوادي المتصدع والدفتيريا والملاريا والكوليرا ، وأخيراً كوفيد-19 ، الذي كان سببا في وفاته.

   - في هذا السياق عبرت  منظمة الصحة العالمية، عن حسرة فقدانها أحد خبرائها في اليمن :"ببالغ الحزن والأسى، تلقينا نبأ وفاة الدكتور ياسين عبدالوارث، بعد إصابته بمرض كوفيد_19 أثناء عمله في الميدان". 

وأضافت المنظمة في بيان نعيها المنشور على موقعها  الرئيسي في شبكة النت  :" أن الدكتور ياسين التحق بفريقها في اليمن منذ بضع سنوات، وعمل كمنسق ميداني للاستجابة الإنسانية لمختلف الأوبئة، بما في ذلك الكوليرا والدفتيريا ومؤخرًا مرض كوفيد-19." 

- وزارة الصحة العامة والسكان في صنعاء ، اعتبرت رحيل مستشارها وأكفأ خبراء الوبائيات في.اليمن د. ياسين عبدالوارث العبسي، خسارة كبيرة ، وذلك بعد حياة حافلة بالعطاء في المجال الصحي.

  بيان نعي الوزارة  - أورده موقع يمن برس الإخباري - أشار فيه إلى المواقع التي تقلدها  : " فقيد الصحة الدكتور ياسين العبسي، فقد شغل العديد من الأعمال في الجانب الصحي ضمن مجاله، متنقلا ما بين البرامج الصحية كـبرنامج صحة الأم والطفل، وبرامج مكافحة الإسهالات ، وبرنامج مكافحة الملاريا والإيدز والسل وغيرها".
 
   وتحدث البيان عن  بصمات الراحل الكبير: " كان للدكتور العبسي إسهامات في بناء القدرات وتأهليها في مجاله ، فتدرب وتأهل على يديه الكثير من الكوادر"... وكان" لخبرته وما قدمه من خدمة للوطن ، أن أصبح كبير خبراء مكتب منظمة الصحة العالمية في اليمن لمكافحة الأوبئة، الذي ساهم من خلاله( هذا العمل) في رفع قدرات اليمن في هذا الجانب".

-.من جهتها وصفت نقابة الأطباء والصيادلة  اليمنيين، الدكتور ياسين عبد الوارث العبسي  ب" أبو الطب الوقائي في اليمن"..وقال بيان المكتب التنفيذي للنقابة :" بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، ويعتصرها الأسى والحزن تنعى نقابة الأطباء والصيادلة إلى جميع أعضائها في الداخل والخارج وإلى جميع العاملين في الوسط الطبي اليمني وإلى كل الشعب اليمني الشهيد رقم 37 من أعضائها ورموزها الأوفياء في مواجهة جائحة فيروس كورونا  الأخ الأستاذ الدكتور ياسين عبدالوارث العبسي مدير مشروع مكافحة الملاريا السابق وأبو الطب الوقائي باليمن ، وبرحيله   فقد الوطن وفقدت نقابة الأطباء والصيادلة والوسط الطبي اليمني أحد رموزها الأوفياء ، والذي كرس كل حياته في خدمة الوطن ومساعدة المرضى.. وكان مثالا للأخلاق الفاضلة والصدق والإخلاص في العمل".( راجع  البيان في المواقع الإخبارية اليمنية).

# هكذا عرفنا ياسين الدكتور
      

    وفي ذات الإطار المجلل بالأسى والحسرة، عبر أصدقاء الفقيد، ومن عملوا معه أو تحت إدارته وإشرافه في غير مشروع وبرنامج ، وفي مقدمتهم زملاؤه الذين عايشوه واقتربوا منه أكثر ، أظهروا في مقالاتهم ومنشوراتهم وأحاديثهم  تأثرهم وأوجاعهم بفداحة رحيل الأستاذ الدكتور عبد الوارث في ظروف صعبة ومؤلمة،  كان الوطن بحاجة إلى خبراته.

  - " آلمني كثيرا وانتابني حزن شديد عندما وصلني خبر وفاة الصديق الزميل الدكتور ياسين عبد الوارث "، هذا ماقاله الأستاذ الدكتور  عبدالله عبد الولي ناشر وزير الصحة العامة والسكان ( 2001-1998) ، وأضاف  - لكاتب هذه المادة -..:" ربطتني بالفقيد علاقة طيبة وجميلة منذ أن قابلته، عندما وصلت صنعاء في منتصف 1985م ، تاركاً عدن بعد أن تأكد لي أن الرفاق سيقتتلون مرة أخرى ( وهو ماحدث في كارثة 13 يناير 1986م المشؤومة)، وقد كنت حينها مديرا لمستشفى المصافي وكبير الجراحين.، كنا في صنعاء نلتقي  أنا وياسين  ونتواصل باستمرار..لقد كنت معجباً بشخصية الفقيد، دماثة الخلق، البساطة، غزارة العلم والإخلاص ، والتفاني في العمل ، وحب الآخرين". 

ويمضي الأستاذ الدكتور عبد الله عبد الولي (مستطردا) :
  "  عندما توليت وزارة الصحة العامة والسكان عام 1998م ، كان الزميل الدكتور  ياسين (رحمة الله عليه) يدي اليمنى فيما يخص الوبائيات ، الذي كان مجال تخصصه..لن أنسى ما حييت تصديه الشجاع لحمى الوادي المتصدع، التي اجتاحت السهل التهامي.. وراح ضحيتها العشرات من المزارعين والمئات من المواشي..وعندما قمت بعدة زيارات ميدانية للحديدة..وجدت أمامي  الفارس المغوار د. ياسين وهو في مقدمة الصفوف ، يكافح الوباء حتى أصيب هو به.. ولكن ربنا ستر وسلم..وتمكن من التغلب على المرض..وعاد لمكافحته بهمة عالية... حتى تمكنا من القضاء على الوباء في وقت قياسي ، وتزامناً مع القضاء عليه في الجانب السعودي، مع فارق الإمكانيات بالطبع.

ويضيف الدكتور ناشر قائلا :

  " كان الفقيد الدكتور ياسين عبد الوارث متمكناً ومرجعاً وطنيا لأمراض الوبائيات ، وكذا لحمى الملاريا ومكافحتها.. وبفضل جهوده أنقذنا عدداً لايحصى من البشر...واليوم مهما رثينا أو كتبنا عنه فلن نوفيه حقه.. كان الفقيد زاهدا..ً الشيء الوحيد الذي كان يغريه ليس المال أو الجاه وإنما النجاحات في مجالات تخصصه..سيفتقده الوطن وكل أبنائه ، وكذا جيل من الأطباء والمساعدين الصحيين الذين علمهم وأشرف على تدريبهم". 


- و على ذات المنوال ، يكتب الأستاذ الدكتور سعيد محمد الشيباني، الخبير المحلي  للمختبرات الطبية بمنظمة الصحة العالمية ، الذي تزامل مع الراحل العزيز، وعمل معه فترة طويلة ، وظل يتابع حالته ، منذ لحظة ظهور أعراض فيروس كورونا، وحتى إدخاله أحد المستشفيات الخاصة في العاصمة ، مقالة  من تفاصيلها  :
   
  " فقدنا في الأيام الماضية زملاء إعزاء من الأطباء في صنعاء وعدن الذين كانوا في خط الدفاع الأول لدرء أخطار كورونا عن الشعب....وكان أحدهم الزميل الدكتور ياسين عبد الوارث، فقدت اليمن أحد رموزها الطبية الكبيرة في مجال مكافحة الأوبئة وفي هذا التوقيت بالذات، وقد كرس الفقيد حياته في خدمة المرضى..وكان مثالا للنزاهة والأخلاق الفاضلة، والعطاء والإخلاص في العمل..على أن وفاته ، لم تكن صدمة لعائلته أو من عملوا معه لسنوات فقط، ولكن أيضاً للعديد من الممرضات والأطباء الجدد الذين تلقوا على يديه التدريب والإرشاد".


    ويستعيد الدكتور سعيد الشيباني - في سياق مرثيته المنشورة في موقع WHO  -  أول لقاء له بفقيد الجميع فيقول :
       " تعرفت على الدكتور/ ياسين عبد الوارث (رحمة الله عليه ) في منتصف التسعينيات أثناء عمله في تأسيس العديد من البرامج الوبائية" بوزارة الصحة العامة والسكان ، مثل برنامج مكافحة الإيدز والكوليرا والملاريا ، حيث كان للفقيد بصمات واضحة في تأسيس وتأهيل الكادر لتلك البرامج بالوزارة بالتعاون والتنسيق مع معظمة الصحة العالمية".

   ويمضي د .الشيباني إلى القول  : "وكان لي شرف المشاركة مع الفقيد في التقصي عن ظهور حالات الكوليرا والملاريا وحمى الضنك بين عامي2006-2011م،  وبالذات بمحافظات عدن، حضرموت ، لحج ، تعز ، و الحديدة ، وقد تعلمت من الصديق الدكتور عبد الوارث وشخصيته الفذة والجادة  بمجال الوبائيات العديد من الدروس والطرق العلمية في عملية التقصي ، وطرق المكافحة والاستجابة للاوبئة المستوطنة ، أو تلك التي تظهر بعد الكوارث الطبيعية ، مثل كارثة السيول في محافظة حضرموت ومحافظة الحديدة".

إلى أن.يقول :
  
     " منذ العام 2017 م كان لي شرف العمل مع فقيدنا ضمن فريق الخبراء بمجال الوبائيات بمنظمة الصحة العالمية باليمن.. وخلال الثلاثة الأعوام السابقة( 20017 – 2019 م) عملت وبشكل لصيق ومستمر مع الزميل الدكتور ياسين عبد الوراث ، ضمن التقصي والمتابعة والترصد للحالات الوبائية في العديد من محافظات الجمهوريه، وخصوصا ما يتصل بحالات الكوليرا في محافظة الحديدة، وأمانة  العاصمة، وكذلك التقصي والمتابعة لحالات الدفتيريا والحميات."

    و"للأمانة أقول ، كان لوجود  الدكتور ياسين عبد الوارث ضمن فريق الوبائيات بمنظمة الصحة العالمية ، إضافة كبيرة، بالنظر لما يمتلكه من خبرة واسعة وتجربة متميزة  وطويلة ، لمعرفتة العميقة والواسعة بالأمراض الوبائية،"

 وختم الدكتور سعيد الشيباني مرثيته بالإشارة  إلى العلاقات الإنسانية للراحل الدكتور ياسين عبد الوارث العبسي :
" من خلال التصاقي به يوميا ..تعرفت على الجانب الشخصي والإنساني للفقيد..ولمست اهتمامه الاستثنائي ، وحرصه غير العادي على زملائه..وكان متواضعا وخلوقا ، يضفي على العمل مسحة جميلة ، تؤثر إيجابيا على أداء العمل وانسيابه ..كماكان فقيدنا الدكتور ياسين ، يتفاعل مع الجميع وبشكل إيجابي...ولا يبخل بما يمتلكه من معارف ومعلومات .. فجيب بصدر رحب كخبير وعالم عن كل التساؤلات وفي أي وقت ، الأمر الذي يفسر حجم الحب والتقدير الذي حظي به الفقيد لدى جميع زملائه".
 .
   - من جانبه يؤكد الدكتور عادل الجساري -- خبير مكافحة الملاريا في WHO في اليمن- في حديث  نقلته قناة بلقيس الفضائية عن "المصدر أونلاين أن الدكتور ياسين عبد الوارث لعب دوراً رئيسياً في الكشف عن معظم الأوبئة والأمراض المعدية،  التي اجتاحت اليمن، والاستجابة لها"، وأن الدكتور ياسين - يضيف الجساري - كرس حياته ؛ لاحتواء الأمراض والأوبئة، وسافر إلى جميع محافظات اليمن ؛ للمساهمة في الحد من انتشار الأمراض المعدية. لقد مثلت وفاته خسارة كبيرة للقطاع الصحي ومنظمة الصحة العالمية في اليمن."


-  "و بمعرفته وخبرته العميقة، ساهم الدكتور ياسين في تدريب وإرشاد آلاف العاملين الصحيين في مجال علم الأوبئة ، والاستجابة للطوارئ"، يقول الدكتور جمال ناشر، منسق النظام الصحي في منظمة الصحة العالمية في باكستان " في حديث أورده المصدر أونلاين  ..حيث وصفه  بأحد أبطال الرعاية الصحية الأولية في اليمن، وله الفضل في تعزيز الأنشطة الميدانية لمكافحة الأمراض الوبائية . كما أنه من أوائل المستجيبين بشكل فعال لأي تفشٍ للأمراض في اليمن خلال السنوات الماضية." مؤكدا أن الدكتور ياسين قبل أسابيع من وفاته، عمل على تدريب فرق الاستجابة السريعة لمواجهة جائحة (كوفيد-19) ..وزيارة مراكز العزل لتقييم الوضع والاحتياجات.".


  - وبدورها قالت الدكتورة أمل الحيدري، وهي طبيبة في مركز آزال الصحي في صنعاء للمصدر أونلاين : " في كل مرة يزورنا فيها الدكتور ياسين عبد الوارث، كان يستمع بعناية لاحتياجاتنا الملحة ، ويبذل قصارى جهده ؛ للمساعدة في تزويدنا بتلك الاحتياجات. لم يبخل علينا عندما كنا بحاجة إلى التدريب والتوجيه والمشورة، خصوصاً خلال تفشي وباء الكوليرا."

  - وفي معرض ذكرياته عن الراحل  الفقيد ياسين عبد الوارث يكتب الدكتور أحمد مقبل القباطي في صفحته الفيسبوكية ..إنه  بعد الوحدة عمل بشكل مباشر مع الدكتور  ياسين إثر انتشار موجات الإسهالات :"  خدم الدكتور ياسين بكل تفان وإخلاص وجدية وروح فدائية .. وحتى بعد إحالته للتقاعد ، لم يتردد يوما للعودة لخدمة شعبه .. ولم يبخل بما تراكم لديه من خبرات في مواجهة كل تحد ونازلة تحل بالبلاد.." .
    على أن الأنكى من كل ذلك، "أن الدكتور عبد الوارث عاش شظف العيش ، وضيق ذات اليد، "يقول الدكتور القباطي.. الذي يستدرك :" لكن كانت نفسه الراقيه وروحه السامية وقيمه النبيلة  أكثر ثباتا وصلابة في الاستمرار على نهجه ومبادئه، حيث أمضى العمر متنقلا في بيوت الإيجار....ومع ذلك يبقى الدكتور ياسين أحد معالم الصحة التي لا تغيب عن الذاكرة ". 

# ياسين.. النشأة والتكوين

   من يكون الدكتور ياسين عبد الوارث هزاع ..؟ الذي تخصص في علم الأوبئة . وجعل الصحة العامة للمجتمع قضيته الأولى .. وكان قطب الرحى في مكافحة الأوبئة  حتى آخر نفس من حياته، وبعد أن ترك جراحة الطب، وكان ماهرا حين "عمل كجراح في مناطق تشهد اضطرابات أمنية، وساعد في علاج وإنقاذ حياة العديد من الأشخاص مجاناً ، بسبب عدم تمكنهم من تحمل تكاليف العمليات الجراحية. " حيث " لم يكن الطب مجرد مهنة للدكتور ياسين وحسب، بل عبارة عن خدمة، ومهمة إنسانية بالدرجة الأولى" وفقا لما قاله الدكتور جمال عبد الوارث عن شقيقه للمصدر أونلاين : لم أكن أعرف إلا القليل عن الدكتور عبد الوارث  ، باستثناء  ما يتصل بنشاطه المهني، وذلك بحكم عملي الصحافي ؛ لذلك لجأت إلى الصديق على عبد الواحد بدر ، نائب مدير مكتب التربية والتعليم بمنطقة الوحدة في أمانة العاصمة ، الذي عرفني بشقيق الفقيد المهندس موفق عبدالوارث  هزاع ، وكذا الصديق الدكتور سعيد الشيباني ، الخبير المحلي لدى منظمة الصحة العالمية في صنعاء .. ، وحصلت منهم على مجموعة من الوثائق والمعلومات المتعلقة  بالراحل الدكتور ياسين عبد الوارث ، منها المؤهلات العلمية،  وخبرته العملية والمهنية ، وشهادات تقديرية من مؤسسات يمنية ودولية ؛ لجهوده المتفانية في مكافحة الأوبئة .. وتدريب وتأهيل الكوادر البشرية العاملة في مجال مكافحة الملاريا ونحوها ، وعشرات الصور الفوتوغرافية  الخبرية،وهي تظهر الفقيد ، وهو يتنقل في الميدان بين مدينة وأخرى ، أضف إلى ذلك تواصلت مع عدد من الشخصيات التي عايشت الفقيد منذ طفولته ..ومنهم الأستاذ القدير والسياسي والمثقف الشهير أمين أحمد قاسم، وكان علي أن أقضي وقتا في تأمل ما حصلت عليه ، ومدخلي في مواصلة الكتابة ، هو إعادة  ترتيب محطات سيرة الدكتور الراحل عبد الوارث ..كما هو آت.
 
  ولد ياسين عبد الوارث هزاع نعمان العبسي ، في عام 1947م، في قرية بني علي/ أعبوس إحدى عزل ناحية القبيطة، (مديرية حيفان حاليا محافظة تعز )،.في غبش طفولته، التحق وهو بالخامسة من العمر في معلامة القرية ، المعروف بالكتاب في ذاك الزمن ، وتسمى الحصحص، ويتذكر الأستاذ أمين أحمد قاسم ، الذي عرف الفقيد منذ طفولته الباكرة ، فيقول:      كان ياسين من المجموعة الأولى من أطفال القرية الذين تعلموا في حيد الحصحص، القرآن الكريم ،ومبادىء القراءة والخط ..على يد الجليلين المرحومين الأستاذ عبد الحافظ محمد طاهر الهتاري، والأستاذ عبد الواحد عبده عثمان -  وهما من رواد التعليم في المنطقة واليمن- ثم انتقل عبد الوارث ليواصل دراسته  في التعليم النظامي الحديث في مدرسة البعث الخيرية الإسلامية، افتتحت عام 1956م-  بنيت على نفقة الأهالي بإشراف نادي الاتحاد العبسي في عدن -، التي أصبحت تعرف باسم الحرية بعد قيام الثورة السبتمبرية الخالدة 1962م ، وهي المدرسة الأم في المنطقة ، التي درس فيها أجيال،  أصبحوا فيما بعد من أشهر الأطباء والمهندسين و التربويين ورجال الإقتصاد والإدارة والأكاديميين والأدباء والفنانين ونحوهم. 

 وفي نهاية 1958م غادر ياسين عبد الوارث  إلى عدن- والحديث مازال للأستاذ أمين أحمد قاسم - حيث التحق طالبا بالمعهد العلمي الإسلامي ،
وكان ياسين عبد الوارث ، يتعلم بعض الظهر في مدرسة الاتحاد العبسي - الواقعة في المبنى الخاص للنادي في منطقة الطويلة بكريتر 1 مع ابن عمه محمد شاهر هزاع، وعبد الرحمن حسن أحمد..وغيرهم من أبناء المنطقة، ومن أشهر المعلمين في تلك المدرسة الأستاذ القدير والشاعر على عبد العزيز نصر (رحمه الله) الذي كان يعمل بشكل تطوعي. 

    ويضيف الأستاذ أمين أحمد قاسم في حديثه عن المحطة التالية من حياة الراحل الدكتور عبد الوارث..متابعا بقوله:

   بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 م في شمال الوطن.. ترك ياسين عبد الوارث عدن إلى تعز ..وعمل في سكرتارية المستشفى الجمهوري إلى جانب مواصلة تعليمه في مدارس تعز..وفي عام 1964م يحدث تحول في مسار الشاب ياسين .. ففي ذلك الوقت، كانت حكومة الثورة اليمنية بمساعدة مصر عبد الناصر ، تقوم بتأسيس المرافق والمؤسسات التي تحتاجها البلاد،  ومن ذلك تأهيل كوادر في مختلف المجالات.. يومها أعلنت مصلحة الطيران المدني أنها بحاجة إلى تدريب عناصر يعملون في المراقبة الجوية..فأعلنوا للشباب اليمني عن وجود منح إلى القاهرة..أجرى المصريون اختبارات أولية للمتقدمين في المطار..وكان ياسين عبد الوارث هزاع أحد الذين ابتعثوا  إلى مصر مع مجموعة من الشباب ، وبعد عودته التحق فورا بالعمل كمراقب جوي في مطار صنعاء الدولي.

    وما قاله الأستاذ أمين أحمد قاسم، حيث عين مديرا عاما لهيئة الطيران المدني في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي ،  تؤكده شهادة حصل عليها ياسين عبد الوارث من مصلحة الطيران المدني في الجمهورية العربية  المتحدة (وزارة الحربية) .. ونصها " تشهد مصلحة الطيران المدني أن السيد ياسين عبد الله هزاع  المولود في 13يناير  1948م. قد أتم بنجاح دراسة برنامج مقرر تدريبي في المراقبة الجوية الأساسية لمدة 36 أسبوعا.. وكان ترتيبه الأول في الدفعة الحادية والثلاثين ، المنتهية في 23 فبراير 1965م في القاهرة."

    ونواصل تقليب صفحات محطات حياة الفتى ياسين عبد الوارث ، ونجده يعمل ويواصل دراسته الثانوية في مدرسة جمال عبد الناصر، الكائنة في شارع القصر بصنعاء ، وتوج جهده أو تكوينه العلمي بحصوله على شهادة الثانوية العامة القسم العلمي بتفوق، فكان ضمن الدفعة الثانية من خريجي المرحلة الثانوية العامة للعام الدراسي 1967-1966م في تاريخ الجمهورية العربية اليمنية  ، وضمت تلك الدفعة نحو 74طالبا، مقابل 27 طالبا، هم خريجو الدفعة الأولى للعام الدراسي 1966-1965م ، ولأول مرة في تاريخ التعليم الحديث في الجمهورية العربية اليمنية((تفاصيل أكثر..انظر : على محمد البحر، واقع التعليم في اليمن ، صحيفة مأرب  التعزية العدد الأول، 29 إكتوبر 1971)).
.
  
ولأن البلاد كانت بحاجة إلى الأطباء والصيادلة والمهندسين وغيرها من التخصصات العلمية، فتلك الدفعة، كما غيرها من الدفع الثلاث،  يتم ابتعاث طلابها في ذات العام إلى القاهرة وسوريا والعراق والكويت ولبنان وإلى الأتحاد السوفييتي ، وتشيكوسلوفاكيا والمجر وألمانية الشرقية .

# مسيرة علمية ثرية 
   
   وفي عام 1967م.يسافر ياسين عبد الوارث هزاع إلى الأتحاد السوفيتي،  ويلتحق بمعهد الطب الأكاديمي في مدينة لينييجراد (بطرسبورج - روسيا الآن -  وتخرج في 23 يونيو 1974م، بحصوله على بكالوريوس الطب العام .ونال شهادة الماجستير في الصحة ألعامة والوبائيات من جامعة طهران 1978م  ٠
*وحصل الدكتور ياسين  على العديد من الدورات التخصصية  خلال مسيرته المهنية..في  : 
* السيطرة على وباء الملاريا- الخرطوم/ السودان- ( 1975-12-25).
*السيطرة على الأمراض المنقولة عبر المياه الملوثة - السودان (1977)
*الرعاية الصحية الأولية ، تيلاند(1980/1-1979/12)
* إدارة الصحة العامة ، الفلبين.(1988-1-6/1987-12-25) 
 * الملاريا والحميات،  الخرطوم( من 7-1يونيو  1997م)،
* طرق مكافحةالملاريا .،
باكستان،( 25ديسمبر 1997م)،
*سيطرة والتقييم لانتشار الإيدز - القاهرة (2006و2009)
إضافة إلى العديد من المشاركات العلمية الخارجية، ممثلا عن وزارة الصحة اليمنية.


# بين الجراحة والطب الوقائي   

   بين 21 يونيو 1974م، تاريخ تخرج الدكتور ياسين عبد الوارث العبسي  من الأتحاد السوفيتي كطبيب عام من جهة ، وبين 17يونيو 2020م،  يوم وفاته ، من جهة أخرى ، تقف(46) عاما بالتمام والكمال،  هي الفترة الزمنية، لرحلة عملية مهنية وإنسانية، شاقة وشيقة ، قلما تجتمع في حياة المرء ، ومسيرته  في كل موقع له بصمات ، وتجربة رائدة في غير محافظة بمدينة وضواحيها وريفها من صعدة وحتى المهرة ، جعلت من صاحبها شخصية مرموقة، ومحبوبة لدى كل من عايشه واقترب منه . فالدكتور ياسين عبد.الوراث،كان متصوفا ، أي نذر نفسه لمكافحة الأوبئة ، وكان محاربا لها ، ولم يفتح له عيادة طوال تاريخه المهني، يقول الأستاذ أمين أحمد قاسم، وهذا ما تفصح عنه  السطور التالية لسيرته المهنية والعملية .
 
  ـ بعد شهر واحد من عودته إلى الوطن كخريج في مجال الطب،  وتحديدا في يوليو 1974م.
يلتحق الدكتور ياسين عبد الوارث العبسي بوزارة الصحة،  كطبيب جراح في مستشفى الثورة العام بالعاصمة صنعاء ، لم يستمر طويلا في عمله ، فوجد نفسه يترك مظاهر الحياة العصرية في العاصمة ، ليخوض تجربة جديدة بمنطقة نائية في الريف اليمني. ففي 1975م عين مديرا لمستشفى السلام في خمر، وإلى جانب عمله الإداري ، كان يقوم بإجراء العمليات الجراحية للمرضى داخل المستشفى، وفي 1976م ، جرى اختياره للعمل كمدير لمشروع مكافحة البلهارسيا في وزارة الصحة بصنعاء، ثم يتولى إدارة مشروع مكافحة الملاريا في نفس الوزارة  في 1977م، وهو عام سفره إلى إيران ، للدراسة العليا ، وفي (1978) ، يعود إلى صنعاء حاملا شهادة الماجستير في الصحة العامة من جامعة طهران.

ومنذ ذلك الوقت، يترك  الدكتور ياسين جراحة الطب ، ويخوض معترك الإدارة الصحية من جديد، حيث شغل عدة مناصب - حتى وصل إلى كبير خبراء في مجال الأوبئة - ، فبين عام 1979م و 1983م ،أسندت إليه إدارة الطب الوقائي وصحة البيئة في محافظة تعز ؛ ليصبح في 3 يناير عامئذ مديرًا عاما لمكتب الشئون الصحية في محافظة تعز ، وبعد عامين، وتحديدا في مارس  1985م، ينتقل إلى صنعاء ، ليشغل منصب مدير عام التخطيط بوزارة الصحة  .
  وفي 1986م اختارته وزارة الصحة ، للعمل مديرا لبرنامج التنمية الصحية مع البنك الدولي في صنعاء ، وبقي في هذا الموقع حتى 1989م ، وفي ذات العام ، تم تعيينه من قبل قيادة وزارة الصحة للعمل كنظير لرئيس فريق" مشروع إنقاذ الطفل" (وكالة التنمية الأمريكية)، حتى انتهى انتدابه في إبريل 1991م ، ثم تعين مستشارا لوزارة الصحة والسكان للأمراض الوبائية للفترة 1996-1991م، وينتقل في 1996م للعمل لدى منظمة الصحة العالمية باليمن كخبير محلى، ثم خبيرًا لدى برنامج الإيدز للفترة  2009-2006م، وبحلول  2010م يتم إحالة الدكتور ياسين عبد الوارث إلى التقاعد ، بعد مسيرة عطاء حافلة لا ننضب ، ورغم خروجه إلى  المعاش بقي.د. ياسين ، يتابع كل جديد في مجال علم الأوبئة ، الذي شغف به من قمة رأسه حتى أخمص قدميه ، حيث عمل خبيرًا لدى منظمة الصحة العالمية للأمراض الوبائية بين 2020-2017م، واستمر  في موقعه، يخوض معاركه مدربا وراصدا للاؤبئة ،ومحاربا لها حتى لفظ أنفاسه يوم 17يونيو المنصرم،  متأثرا بإصابة عمل ، أثناء نزوله الميداني ؛ لمتابعة وتقييم حالة المصابين بكورونا، وذلك قبل 13يوما من نهاية عقده مع WHO.


#ماذا لو استمعوا لياسين؟

    وإذا انتقلنا بالحديث عن مواقف الدكتور ياسين عبد الورث - رحمه الله - فيما يتعلق برؤيته لواقع الخدمات الصحية ، وتقصير وزارة الصحة في تشجيع  الأطباء على التخصص في مجال الصحة العامة ومكافحة الأوبئة ، وكذا المشروعات المهمة، التي تنفذ بتمويل خارجي، فسنجدها تتسم بالشجاعة والصراحة والشفافية ، يعرفه زملاؤه ، أنه لا يجامل.. ولا يداهن ..كان جادا ، يرفض التعاطي مع العمل الناقص أو القبول بأنصاف الحلول ..يقول ما يقتنع به من موقع المسؤولية..وما يرتضيه ضميره....حتى لو كلفه ذلك فقدان منصبه ...كان في حواراته وأحاديثه الصحفية ، يصارح الرأي العام بالحقيقة ..وبالتالي يعمل على لفت انتباه القيادة السياسية والجهات المسؤولة عن صحة الإنسان إلى مواطن الخلل.. يبسط المشكلة ..ويضع حلولا سليمة لها.. ويتخطى الواقع إلى  تقديم رؤيته للمستقبل..ومن ذلك على سبيل المثل لا الحصر ..انتقاده لمسألة  اعتماد الحكومة على التمويل الخارجي ؛ لتنفيذ مشاريع أو برامج أو حملات لمكافحة بعض الأوبئة أو ظاهرة بيئية ، تهدد صحة الإنسان..ولا تقبل ترحيلها ..بل تزيد المشكلة تفاقما واتساعا، يصعب السيطرة عليها..فالممول الخارجي، كما يقول الدكتور ياسين ، يمارس بيروقراطية إدارية معقدة.. و بعد دراسات، وأخذ ورد حتى يوافق أن يعطيك مبلغا من المال.. ويتم الإعلان عنه في وسائل الإعلام.. لكن ما لا يعرفه الناس أن 50 في المئة من المبلغ تستقطعها الجهة الممولة لشراء سيارات ومكاتب ومكافآت لخبرائها الأجانب ،  تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات..وعليك أن تنفذ المشروع بنا تبقى من الخمسين في المائة الأخرى.. التي في العادة لا توظف كلها...وهنا ينتهي التمويل ، وأنت في نصف الإنجاز، ويتوقف المشروع..وتبقى المشكلة قائمة ..ولهذا  يرى الدكتور ياسين عبد الوارث أهمية  اعتماد مبالغ في الموازنة العامة للدولة ، تخصص لمكافحة الأوبئة .. هذا الحديث وغيره جاء في سياق حوار طويل أجريته معه عن خطورة الكلاب الضالة..ونشر في الثورة عام 1988،  يومها حذر من الاستمرار في الركون إلى الخارج في قضية حساسة، تمس سلامة المجتمع ، وقال إذا ظللنا نعتمد على ما يأتي لنا ناقصا من بنك دولي أو غيره فإن الكلاب الضالة ، سوف يتزايد أعدادها بصورة غير طبيعية، وستكون في المستقبل كارثة بيئية  وصحية...ولو استمعت الحكومة والجهات المعنية للدكتور ياسين عبد.الوارث ..لما أصبحت الكلاب الضالة والمسعورة، تشكل أعظم خطر ، يهدد حياة اليمنيين من خلال تعرض الكثيرين  منهم ـ وبخاصة الأطفال وكبار السن ـ  لعضات كلاب مسعورة، تصيب الإنسان  بداء الكلب.. ناهيك عن كثافتها المنثورة في كل حي ومدينة وشارع وقرية اليوم.!!

#وهذا ما ينقصنا

وثمة ملمح آخر للدكتور ياسين عبد الوارث، تجاه واقع الخدمات الصحية والطبية ،  وكيفية تطويرها ومستقبلها..وهي رؤية أثبتت الأيام.- كما سيأتي-  صحتها وصوابها بالنظر إلى أن ما قدمه من تشخيص وحلول كانت في محلها ولا غبار عليها .
وللاستدلال على ذلك ..من المناسب إيراد مكثف لما تحدث  الدكتور ياسين عنه في نوفمبر 1988، أمام ندوة موسعة ، ضمت نخبة من كبار الأطباء والصيادلة وقيادات إدارية ومواطنين ، عقدتها جريدة الثورة، ممثلة بقسم التحقيقات بعنوان الخدمات الصحية والطبية ..واقعها وآفاق تطويرها،   ودارت في ثلاثة أيام حول ثلاثة محاور ،الخدمات..الكادر البشري .الدواء .
  ومن جملة ما بسطه الدكتور ياسين في حديثه ما يتصل  بالخدمات الصحية التي ماتزال دون المستوى المطلوب بالرغم من المحاولات التي تقوم بها وزارة الصحة ..وأن الخدمات لم تصل الريف اليمني، حيث الكثافة السكانية..و مساهمة المجتمع لم تبلغ بعد المستوى المنشود ..لا بل لا يعرف المواطن عن الخدمات شيئا..في حين أن قيام المرضى الذين بالتردد على المستشفيات في المدن، ناتج في الغالب عن ممارسة خاطئة من قبل المواطن بسبب غياب الإعلام والتثقيف الصحي وانتشار الأمية...
وأشار الدكتور ياسين عبد الوارث إلى أن المراكز الصحية ضعيفة، فليس لديها أطباء ولا صحيون ولا يحزنون ..بل لا تجد ما تقدمه من إسعافات للمستفيدين حتى ولو بسيطة ..وفي رؤيته للنهوض بواقع الخدمات الطبية والصحية، قال: ينبغي أن تتحول المراكز  الصحية إلى ركيزة أساسية؛ لإيصال خدمة الرعاية الصحية الأولية للمواطنين ، بما في ذلك الوقاية..ولكي تكون كذلك ، لابد من رفدها بالأجهزة الطبية وبالكوادر البشرية المؤهلة، بدلا من تكديسها في مستشفيات المدن الكبرى..وقال أيضا ليس أمامنا من تجاوز للمرحلة إلا بإعطاء أولوية قصوى لصحة الرعاية الأولية كمنهج وسياسة.. وكمفهوم تكاملي بين وزارة الصحة والمجتمع..
وفي موازاة ذلك..الاهتمام الأكبر بالكادر الذي يتم التعويل عليه في مجال مكافحة الأمراض الوبائية السارية..
وهذا ما ينقصنا ، وانتقد مظاهر القصور في الكوادر البشرية العاملة في مجال الصحة العامة ..وقال اإن الموجودين لا يتعدون عدد أصابع اليد الواحدة، يهتمون بتسعة ملايين نسمة بينما الإكلينيكون بالمئات..!

   هذا الحديث كان يدور عن مستوى الخدمة الطبية والصحية فيت الجمهورية العربية اليمنية..، وعندما نتأمل الواقع الماثل اليوم ومنذ قيام دولة الوحدة في مايو 1990م..سنجد أن عدد السكان وصل اليوم إلى 30 مليون نسمة طبقا للأرقام المنشورة..إن الخارطة الصحية توسعت..
وصاحبها ارتفاع في الكوادر البشرية  بمختلف التخصصات الطبية والصحية كما وكيفا... وزاد عدد المستشفيات الحكومية والخاصة  في المدن.وتنامي عدد المراكز والوحدات الصحية في مديريات المحافظات .. إلى جانب وجود.أحدث الأجهزة الطبية في المستشفيات.. مع ذلك كشفت الأزمات الوبائية التي تجتاح البلد من حين إلى آخر، مثل : الملاريا وحمى الضنك والخنازير والطيور.. والكوليرا والمكرفس وصولا إلى جائحة كورونا..  أن نقصا حادتا في المتخصصين في مجال الأوبئة والصحة العامة ..وأن الخدمات في السنوات الأخيرة، وقبل الحرب لم تكن بمستوى الطموح...أي أن ما قاله الدكتور ياسين عبد الوارث وزملاؤه -في تلك الندوة المهمة- من آراء ومقترحات وتصورات ، للنهوض بالخدمات الصحية والطبية ..ورفع مستوى الكادر البشري، ومنح العاملين بالقطاع الصحي من أطباء وصيادلة ومختبريين وممرضين الرواتب التي تكفل لهم العيش بكرامة، وتفرغ لأداء خدماتهم الإنسانية والمهنية تجاه مواطنيهم..إلى الارتقاء  بالتخطيط  العلمي والتقييم الدوري السليم ..
وحماية المهنة من الدخلاء بتعزيز ميثاق الشرف، والحد من تهريب العلاجات . كلها مسائل ملحة، وتبقى قائمة.(( وقائع الندوة منشورة في سلسلة حلقات ،بصحيفة الثورة خلال شهر نوفمبر 1988م)).


#دمعة للأسى على ياسين 

    وبعد كل هذا..،  يصح أن يقول المرء أو إن شئت الدقة يسأل: هل تعرفون صاحب هذا التأريخ العلمي والمهني والإنساني الممتد نحو خمسة عقود ونيف،  قضاها الراحل الكبير والقدير والنبيل الدكتور ياسين عبد الوارث هزاع نعمان العبسي في عمل متواصل وحركة نشطة إلى درجة تصعب فيها مجاراته...
رجل عمل بصمت متجاوزا كل الصعوبات والعراقيل والتهميش ، بداية بالتحصيل العلمي ثم التفرغ  لخدمة وطنه وأبناء شعبه متقلدا المناصب،   وكان وراء نجاح العديد من البرامج المشروعات  في مجال مكافحة البلهارسيا وحمى الملاريا والضنك والدرن ..ومع أنه تقلد العديد من المناصب القيادية ، كما رأينا قبل، بيد أنه عاش  نزيها ،عفيفا، يعتمد على راتبه ..ويكفي أن نعرف أنه ضحى بنفسه ، ولم يترك لأولاده الستة رصيدا في البنك ولا حتى منزلا يأويهم، ويحميهم من نيران الإيجار...
مع ذلك  ترك الراحل القدير  رصيدا من الحب الجارف في قلوب الناس..وتاريخا مشرفا، وسيرة عطرة..والمؤكد أن التاريخ،سيتوقف أمام كوكبة حظيت بتقدير المجتمع، وتعرضت لظلم رسمي فادح..
جيل التضحيات والإيثار من خريجي الجامعات والكليات  في العقدين الستيني والسبعيني..ومن بينهم بالطبع الدكتور ياسين عبد الوارث ، الذي ستبقى صورته حية في ذاكرة كل الأجيال ، بما رسخه من مبادىء وقيم الإيثار وعزة النفس والكرامة الوطنية ..وستبقى اعماله الخالدة وعطاؤه نبراسا، يستضيء به كل محب لوطنه ومخلص لمهنته في أي حقل وفي غير مجال.  

ختاما ..من ياترى يبادر ويرد جزءا من جميل لهذا الإنسان  الوفي والنادر والمتميز في مجتمعنا ...ويادكتور ياسين لروحك السلام ..ورحمة الله تغشاك .

مقالات الكاتب