ذكريات خاصة عن:" الشعتوت" إنسانا ودودا افتقدناه

رحل عن عالمنا الأخ العزيز محمد سيف محمد غالب ، صباح الخميس المنصرم، 26 مايو 2022م، في مدينة القلوعة / عدن ، إثر معاناة طويلة من مرض عضال ألم به، ووُرِي جثمانه الثرى ظهر ذات اليوم في "مقبرة العثماني" بمنطقة الممدراة في الشيخ عثمان.

هكذا..، غَيّبَ الموت أعز الناس إلى القلب، وذلك في لحظات ذهول مشبع بالوجع والفجيعة، يعيشها يمننا النازف، وشعبنا المنكوب منذ ثماني سنوات..، كنت أعرف أن الأخ محمد،  يعاني من مرض السكر والضغط..بقيت على تواصل معه بين حين وآخر..، فما إن يسمع صوتي عبر أثير الهاتف المحمول، حتى أشعر من نبرة كلماته، بأنه يتمتع بروح معنوية، وبإيمانه بقدرة الله تعالى؛ وهو يقاوم مرض لا يرحم؛ غير أن أكثر ما كان يؤذيه، سماعه  أخبار كُُرَبْ الحرب ، والاحتراب، وما أفرزته من أهوال ؛ وانقسام؛ وتمزق ؛ وفرقة؛ وكراهية مقيتة بين أبناء الوطن!!

 كنت أشعر - عن بُعد - بما يعانيه من الآلام..، وبعد عبارات قليلة مليئة بالأسى،  يترك جهاز الهاتف لمن يقف بجانبه لحظة الاتصال، خاصة في الأيام الأخيرة..فلا يستطيع حبس دموع مآقيه عما يجري للبلاد والعباد، بحسب ما أخبرني ابنه مروان...وأم وضاح عارف ناجي أ-يضا-ً..، بيد أن وفاته خلعت قلبي، واجتاحت مشاعري العاطفية غمة ثقيلة ؛ بإحساس محزن مرتعد، من كآبة الظروف الراهنة ، التي حرمتني من رؤيته !!
  
  *صورة "الشعتوت"*

  ومع هذا..لم يحصل في حياتي أن بدأت كتابة مقالة مرثية؛ وأنا لا أعرف كيف ستنتهي؛ لا سيما أن من أتحدث عنه، ليس هو أخي محمد سيف محمد وحسب، بل قبل ذلك..وبعده.. فهو عمدة " أسرة الْمَجَرْ" وأنبل ما فيها، وهو بالنسبة إلىّ صديق وفي، وإنسان طيب القلب، وسند أصيل، بطبعه البشوش، وروحه الصافية، كان عطوفاًً وكريماًً،لا يتردد في مساعدة من يلجأ إليه؛ أو يشعر بأن ثمة من هو بحاجة إليه، حتى وإن كان مايقدمه لغيره عن طيب خاطر، على حساب قوت أطفاله..؛ فهو ليس تاجراًً أو ثرياً- كما سيأتي لاحقا-، لكنه غني النفس، مشبع بقيم إنسانية نبيلة..، ولطالما أبهرني حب الناس له، ومَن عاشره وعرفه عن قرب، تحدث عنه في حياته، وغداة وفاته..وعلى لسان كل من اتصل بي معزيا بفقدانه.
:
  كانوا يلقبون محمد سيف ب" الشعتوت"؛ بسبب ردة فعله السريعة والعفوية؛ عندما كان يتعرض له في غبش طفولته في القرية؛ من عنف جسدي لأي سبب كان و دون مبرر، فيذهب ليعبر بطريقته البريئة ؛ وبحركته اللا إرادية عن رفضه لقسوة التربية، وتعامل الآباء مع أولادهم، ولهذا كان يكره الظلم،   حتى وإن عرضه ذلك للعقاب..؛ من أحد أعمامه.

 يا "شعتوت".. هكذا يناديه أصدقاؤه وزملاؤه، وحتى زوجته وشريكة حياته وأولاده، وكان يرد عليهم بابتسامة رقيقة، وجذابه وودودة، وكأنه بذلك يخرج من مخزون ذاكرته صوراًً لكل ما مر به في حياته من منغصات مؤلمة ومواقف قاسية؛ لكنني شخصياً، لم يحدث أن ناديته بلقبه الأثير ، إلا مرة واحدة ، حينما كتبت عنه في 21 إبريل 2021م، مقالة قصيرة،  تعليقا على صورة حديثة له بعنوان "الشعتوت الجميل الأحب"، عرضت في سياق الموضوع بعضاً من الذكريات الجميلة، والخاصة جداً معه، مع ذلك كنت آخر من يطلق لقب "الشعتوت" على أخي الأكبر، لأنني عايشته في طفولتي بعدن في ستينيات القرن الماضي، حين كنت ألجأ إليه عند الضرورة؛ ولم يخذلني يوماً..وكثيرا ما جلست أمامه في فترة في فترات، كصحافي أسأله عن مسيرة حياته الشاقة والشيقة ومغامراته في آن..فكان يجيب بتلقائية،  وقد دونت كثيرا منها في أوراق.. وهاأنذا  اليوم أعود إليها لأستعرض بعضا من محطاته بإيجاز كلي في الجزء القادم .

*من القرية إلى عدن*

بدأت مسيرة الفقيد الغالي محمد سيف، مع نهاية ثلاثينيات القرن العشرين،  في قرية الأكٔسَرْ، الواقعة في رأس جبل الحُريم بين الأعبوس والأغابرة ، وعندما بدأ يعي ما يجري حوله ؛ وجد نفسه مع أترابه ينظر إلى وجوه الآباء والأمهات..وعلى ملامحهم كل مظاهر الحرمان والقهر..حياة بائسة ؛ يلفها التخلف المريع ، والجهل المخيف،كأن اليمن في تلك الحقبة المؤلمة، يعيش خارج العصر، محروماً من أبسط مظاهر الحياة وحق التنفس؛ لا مدارس تنير العقول ؛ ولا مشافي تخفف أوجاع الناس..لا كهرباء تضيء دروبهم ليلاً؛ ولا طرق للتواصل بين المدن سواء في الشمال أو الجنوب باستثناء المستعمرة عدن!.
وفي تلك السنوات الكالحة السواد، يلتحق محمد سيف  بكُتّاب القرية؛ ليتعلم ماتيسر من سور القرآن الكريم، وفروض الوضوء، وكيفية أداء الصلاة، بالإضافة إلى فك حروف الخط .. وعندما اقترب من العقد الأول من عمره، يصطحبه والدنا الحاج سيف إلى مدينة عدن، في مطلع العام الثامن والأربعين ميلادية تقريبا، حيث كان الوالد يعمل بتجارة التجزئة والجملة مع إخوانه :عبد الله وأحمد وشايف(رحمة الله تغشاهم) في دكان تحت منظرة الحاج زكو في حافة حسين بكريتر، وفي دكان آخر بحافة دبع بالشيخ عثمان، سكشن2B.. أصبح بعد الاستقلال شارع الكويت .

و في تلك الأثناء يستقر محمد في الشيخ عثمان ، ولأن المدارس الحكومية في ذلك الوقت كانت وقفا على من يحمل المخلقة العدنية - أياً كانت جنسيته وديانته -، واصل محمد تعليمه الأولي في معلامة الفقيه جازم عثمان العبسي(رحمه الله)، وهو أحد رواد التربية والتعليم في ذلك الزمن الجميل، وكان أستاذي - أيضاً- قبل التحاقي بكلية بلقيس في الشيخ عثمان عام 1961م.

وحدها عدن كل شيء فيها مبهر..يحبها الإنسان منذ لحظة معانقته لها، تحتضنه بدفء وحرارة، دون أن تسأله عن هويته.. أصله وفصله ..لهجته ولغته ..ديانته وعرقه ولونه، هي دون سواها من محميات الجنوب ومدن وقرى الشمال، يتنفس المرء عبق الحياة العصرية،  هنا الكهرباء.. والشوارع المسفلتة والسيارات من كل نوع إلى المظاهر الحضارية من ثقافة إلى صحافة وسينما ورياضة وفنون وما شابه ..وقبل ذلك هنا الناس من مختلف الأجناس، وقد انصهروا جميعا في بوتقة الإنسانية والتعايش والتسامح.

في ذاك الجو المفعم بالحيوية والحركة، وجد الفتى محمد سيف حياته غير ما رآه في قريته، فقد تفتح وعيه..وعرف أن الوطن اليمني مقسم بين النظام الإمامي في الشمال والاستعمار البريطاني في الجنوب..، وشهد المظاهرات الغاضبة التي اجتاحت عدن احتجاجاً على اغتصاب  فلسطين ، وزرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية، ورأى بأم عينيه كيف قمع الاحتلال البريطاني بالقوة تلك المظاهرات. 

و تمضي الأيام، ويكبر الفتي  قليلاً،لتقفز إلى عقله نزعة الاستقلالية ، والاعتماد على الذات ، وسعى للتحرر من روائح تجارة المعطارة، فاستهوته قيادة السيارات بشغف، فتعلم السواقة، وحصل على ليسن "رخصة"، ثم اقنع الوالد بشراء سيارة" لند روفر"، كان ذلك في العام 1959م أو بداية 1960م.. وتحقق له ما أراد، وأصبح يشتغل بتلك السيارة بين لحج و بلدة الراهدة، حيث يقع في الأخيرة أشهر جمرك في اليمن، وكانت لحج - الراهدة أهم محطة لنقل المسافرين والبضائع بين الشمال والجنوب ، ثم ذهب أبعد من ذلك إلى تعز وصولاً إلى إب المدينة، وبين يوليو وأغسطس 1962م  يتدخل القدر، لينهي مغامرة الشاب محمد سيف، وهو عائد من إب، حيث انتهت السيارة بسبب الطرق الجبلية الوعرة، التي لا تصلح لمرور الجمال  والحمير؛ فما بالنا بالبوابير!!

مع الحرس الوطني في المحابشة

  وفي تلك الفترة كان محمد سيف، يمر بظروف نفسية، بعد أن شهد حلمه يتناثر قباله، ليتوارى تحت ركام حطام السيارة، إلا ٌ أن معاناته لم تدم طويلا، بفعل وقوع حدث تاريخ مهم، غير مسار حياة الفتى، مثل غيره من اليمنيين،  فقد سمع راديو صنعاء، يصدح ذات صباح أيلولي بعنفوان ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م.. وكانت تعز - حيث هو - تغلي بمرجال الثورة والحرية؛ احتشد اليمنيون من كل مكان تلبية لدعوة القيادة العامة للقوات المسلحة للشعب بسرعة الالتحاق  بالحرس الوطني؛ للدفاع عن ثورته وجمهوريته...فتحولت تعز إلى محطة لاستقبال الشباب من  تعز وإب، علاوة على القادمين من عدن وردفان ولحج وأبين وغيرها بالألف..في ذاك الجو المفعم بالحماس الوطني، وبمشاعر الفرحة والابتهاج بأيلول المجيد، يلتقي محمد سيف بصديقه الحميم والوفي  محمد عبده ناشر المعروف فيما بعد ب" شيخ الله"، ويلتحقا معا في معسكر الحرس الوطني في عصيفرة ، وهناك تلقيا مع غيرهم من الشباب اليمني الفتي تدريبات أولية عن الانضباط العسكري..وكيفية استخدام السلاح..، ثم تم نقلهم إلى صنعاء، وبعد إعطائهم جرعة معنوية في حب الوطن،  وبث روح الحماس الثوري في نفوس المتطوعين، من قبل قادة الثورة وعلى رأسهم المشير عبد الله السلال رئيس الجمهورية العربية اليمنية  واللواء محمد قائد سيف عضو مجلس قيادة الثورة، تلقى الشباب دورة تدريبة سريعة في مجال فنون القتال  والضبط والربط العسكريين على أيدي ضباط يمنيين ومصريين، وبعد فترة قصيرة تم توجيه المنتسبين للحرس الوطني إلى الجبهات الأمامية في المناطق الشمالية..كان محمد سيف من ضمن أفراد الطلائع الأولى للحرس ، تم  إرسالهم إلى حجة، وتحديدا إلى المحابشة. بقيادة المناضل السبتمبري اللواء أحمد عبد الرحمن قرحش..، وكان خير قائد وأخا للمتطوعين بحسب وصف الأخ محمد سيف ، الذي خاض مع زملائه من أفراد الحرس الوطني معارك ضارية في جبال المحابشة والشاهل والشرفين وعبس..، ضد الملكيين، و هؤلاء كانت قواتهم أكثر تسليحا..، مقابل سلاح البندقية التشيكية لأفراد الحرس الوطني ..إلا أن سلاحهم الأقوى يكَمن في ثقتهم بعدالة قضية وطنهم، وإيمانهم بثورتهم..، واستعدادهم لتقديم المهج والتضحية بأنفسهم في سبيل عزة اليمن وثورته الخالدة وجمهوريته الفتية...وبعد تحقيق الانتصارات في جبهة المحابشة ومحيطها ، وسقوط الكثير من الأفراد بين شهيد وجريح، تقرر القيادة العسكرية في صنعاء عودة من تبقى من متطوعي الحرس الوطني إلى العاصمة ، ليتم الاحتفال بهم في مهرجان خطابي، حيث تمت الإشادة بأدوارهم البطولية وبتضحياتهم الجسيمة..ليتم تسريح مجاميع كبيرة منهم.. ومن كان لديه شهادة متوسطة من مدارس عدن.. وتحديدا من مدرسة بازرعة الخيرية والمعهد الإسلامي ، وكلية بلقيس ، فقد التحقوا بالمؤسسات والمعاهد العسكرية في الداخل والقاهرة ، وأصبحوا فيما بعد من كبار قادة الجيش في شمال الوطن.. منهم (اللواء) محمد عبده ناشر( شيخ الله)..، وفي مطلع العام 1964م تقريبا، يعود محمد سيف إلى القرية ، مع بعض أصدقائه من متطوعي الحرس ..منهم الإخوة : أحمد عبد الله الفقيه ، أحمد عبده محمد علي، وعبد السلام غالب وآخرون .

*30سنة مع الروتي*

  وبعد تسريح المتطوعين من أفراد الحرس الوطني ، لم يستقر "بن سيف" في صنعاء أو تعز،  وإنما عاد إلى عدن المدينة ، التي عشقها وأحبها حتى النخاع..ليلتحق موظفا لدى فرن" GREEK BAKARY" ،الواقع في حافة الزعفران في كريتر، وجريك أو غريك باكري  كان أشهر معالم عدن منذ 1936م، لصاحبه الخباز اليوناني( أوسولد وليم فيج) المشهور بصناعة أنواع الروتي أبو صندوق والطوال والبان والسليس والحلويات وأنواع الكيك، المميزة برائحتها الفواحة اللذيذة.

وكان المستر فيج  حينذاك متعاقدا مع الإنجليز في المستعمرة عدن، لتوفير الخبز والكيك لعوائل ضباط وجنود الاحتلال البريطاني ، ومعهم موظفون هنود وعرب، يعملون في القاعدة العسكرية بخورمكسر ، واختير الأخ  محمد سيف ، لمهمة توزيع الرغيف أو الروتي لهم ..كما أخبرني صديق الطفولة العزيز عبد القادر أحمد ثابت نعمان، والذي ألتحق بعد حين بالعمل في ذات المخبز.

وبعد الاستقلال( نوفمبر 1967م)  تراجعت خدمات المخبز اليوناني ، واستمر محمد سيف في توزيع الروتي بشكل مستقل، فامتلك سيارة  "هوستن ميني" ثم" أوبل"، للقيام بنقل الروتي والكيك من عدن إلى خور مكسر، وهذه المرة كان يشتري على حسابه، مايريده من كمية الروتي والكيك من أفران كريتر المملوكة لأبناء قرية الغليبة/الأعبوس ..منهم : عبدالله عبده حميد ناشر، ومحمد عبد اللاه، وهزاع بشر، وهزاع على أحمد، حيث يقوم بتزويد سكان خور مكسر -لاتوجد هناك أفران- من المواطنين والوزراء والسفارات الأجنبية وأصحاب المطاعم والمعسكرات (والمدارس صباحا)، على فترتين الأولى قبيل أذان الفجر.. والوردية الثانية بحلول الساعة الواحدة بعد منتصف الظهر..، و على هذا المنوال بقي ملتزما بعمله، وفيا لزبائنه حتى توقف منتصف تسعينيات القرن الماضي ، يقول نجله طارق محمد سيف، الذي كان يصاحب والده مع أخيه وليد محمدسيف أثناء قيامه بتوزيع الروتي بسيارة "كرولا"..،لتبقى واقفة أمام منزله بالقلوعة ، بمثابة تذكار جميل وعزيز على صاحبه، تحكي تفاصيل ثلاثة عقود من الزمن قصة مكافح وإنسان نبيل اسمه محمد سيف .

*بصمات الشعتوت بالفلاح*

ويتواصل حديث الذكريات مع "الشعتوت" ، وفي هذا السياق، كلما فكرت بوضع نقطة لختام ما بدأته، تهبط على رأسي على شكل صور زاهية لا تنسى، تحكي تفاعله وعطائه لتربية النشء، وإن كان لي أن أتحدث عن موقف واحد ،أعده أنموذجا لروح الإيثار لدى محمد سيف، فلابد أن يكون هذا العمل ،هو مساهمته في اللبنات الأولى لتأسيس النشاط الرياضي لمدرسة الفلاح الابتدائية الإعدادية في قرية الغليبة اعبوس..وهو حدث له قيمته  الكبيرة.

وهنا أعود بكم إلى الوراء ،نحو 50 عاما،  فيحدث أنه في يناير 1973م ، عاد الأخ محمد سيف من عدن إلى القرية لزيارة الأهل، وعامئذ كنت أقوم بأداء الخدمة الوطنية الإلزامية في مجال التدريس  بعد الثانوية العامة في مدرسة الفلاح..، وكنت مشرفا رياضيا إلى جانب القيام بتدريس مواد أخرى..، وجلست مع أخي محمد وحدثته عما نعمله في المدرسة وبخاصة تأسيس النشاط الرياضي كما هو معروف، وقلت بدأنا من الصفر، فلا أدوات أو وسائل للنشاط المدرسي ولعبة كرة القدم ..، وإن البداية لتوفير بعض المستلزمات كانت تتم على حساب تبرعات الزملاء في هئية التدريس ومدير المدرسة..ومن كان في البداية الزملاء الأعزاء الأستاذة: مدير المدرسة عبد الباقي محمد أحمد قاسم، ورشاد محمد عبدالله أحمد، ومصطفي باشا ناجي، وياسين إسماعيل سعيد المريش، ومحمد عبد الرقيب محمد سيف المقدم، ومنصور أحمد منصور،  وعبد الحليم سيف، والعزيزات المدرسات /الطالبات: ليلي عبد الخالق ناجي، وزينب مكرد سعيد المريش، ونبيلة غالب سعيد المريش، (قبل أن ينضم إلى هذه الكتيبة المتفانية الزملاء الأساتذة عبد الجليل عبده أحمد ثابت، ومحمد غالب سعيد المريش، والطالبة المعلمة لول علي محمد الحربي) وهؤلاء أصبحوا فيما بعد من خريجي جامعتي صنعاء وعدن والجامعات الأجنبية ..و هؤلاء عن طيب خاطر ،كانوا يستقطعون من رواتبهم مبلغا لدعم النشاط الرياضي بالمدرسة.

وعندما سألني الأخ محمد عما يمكن أن يساهم فيه لتطوير النشاط الرياضي بالفلاح..؟
فقلت له نحتاج إلى أي شيء. . من كرات إلى أحذية.. إلى قوائم للأجوال.. إلى زي رياضي...إلخ.   فقال لي: مارأيك أن أرسل لكم بقوائم( الأجوال الأهداف) ؟.
 قلت له: فكرة جميلة بس حاول أن يكون المقاس صغيرا؛ لأن ساحة الملعب ضيقة.. وغير متساوية، ويحري توسعتها حاليا.  
فقال: سوف أحاول حتى وإن كان كبيرا سينفع طلبة المدرسة  في المستقبل..

لم أخبر الزملاء عن تلك المبادرة، وقلت لا أدري كيف تكون ظروف محمد المادية..

لم يمض شهر على وعده حتى جاءت المفأجاة الجميلة، فتلقيت رسالة منه يفيد فيها بأنه أرسل بقوائم حديدية للأهداف، مع كرتين، ومنفاخ للهواء..كهدية منه للمدرسة.. وأنه أرسلها مع الجمَّال محمد عبد الغفور من ضمران.. وماعلينا إلا الذهاب لأخذها من هناك .

أخبرت الزملاء وكانوا سعداء ..وتم تكليف الطلبة الكبار للذهاب إلى ضمران؛ لنقلها في طريق وعرة وطويلة..وتم تركيبها في ساحة المدرسة، وأصبحت قوائم الأهداف كتلك التي نشاهدها في ملاعب كرة القدم..وعلمت فيمابعد أن تكلفة تلك القوائم والكرات والمنفاخ مع أجرة الجمال بحدود ألف ومأتي شلن..وهو مبلغ كبير في تلك الأيام.

الأهم .قوبلت مبادرة محمد سيف الكريمة بارتياح الزملاء في إدارة المدرسة وأعضاء هيئة تدريس الفلاح ..وأبلغ رد على اللفتة ما جاء في  رسالة" شكر وتقدير" وجهها الزميل الأستاذ القدير عبد الباقي محمد أحمد قاسم مدير المدرسة، وقتذاك إلى الأخ محمد سيف، وتاريخها 1973/3/18م.. ومن تفاصيلها:
" إن مدرسة الفلاح الإبتدائية الإعدادية في الغليبة ترفع أجل تحية وتقدير للأخ محمد سيف محمد غالب بما تقدم به من تبرع ب(الأجوال) للمدرسة، والإدارة بدورها إذ تفخر بكل فرد يشارك في حل محتاجات المدرسة، وتعتبر أن أمثال هذا قدوة، ومثال رائع لكل شخص من أبناء الريف... ".

وهكذا بفضل محمد سيف ، كانت الفلاح أول مدرسة في ناحية القبيطة تعرف دخول قوائم الأهداف بمقاسها المعروف عالمياً..وكان ذلك حافزا كبيرا للارتقاء بالنشاطات الرياضية ولعبة كرة القدم.

وما يستلفت نظر من يزور مدرسة الفلاح رؤيته لتلك القوائم كما تظهر في الصور الفوتوغرافية الخاصة بتغطية منافسات الدوري المدرسي لمدارس عزل مديرية حيفان..دون أن يعرف الطلبة وإساتذتهم قصة واسم من جاء بتلك الأجوال، وكيف وصلت ومتى..وكيف مازالت صامدة على مدار نصف قرن من الزمن..برغم تغيير مبنى المدرسة، وتفكيكها وإعادة تركيب القوائم في تلك الساحة.

ولعلني استشهد بأروع وصف لتلك القوائم وتحية لصاحبها الأخ الفقيد محمد سيف محمد ما قاله الصديق المهندس عبد العليم عبد الخالق المقدم :
" رحم الله الأخ محمد سيف وأسكنه الجنة ..فلازالت الأجوال الحديدية  لمرمى ملعب كرة القدم في مدرسة الفلاح شاهدة له بالكرم والجود ".

وداعا أخي محمد سيف الشعتوت الذي افتقدناه كأنسان طيب وودود وستبقي ذكرياته حية لا تموت.

لروحك السلام والمحبة أيها الحبيب وأسكنك الله الفردوس الأعلى من الجنة.
إنا لله وأنا إليه راجعون.

#عبد الحليم سيف
صنعاء ، الثلاثاء، 7يونيو/حزيران
2022م

مقالات الكاتب