يوميات صائمين ، أصوات من شمال الكوكب (٧)

لمّة رمضان، بالتأكيد في زمن ما قبل كورونا، كنتُ قد نسيتها منذ أن قررتُ العودة إلى القاهرة لاستكمال الدراسات العليا وأقمتُ فيها هناك لوحدي، مرّ عليّ أكثر من رمضان دون أهلي، ولكني لم أشعر حينها بالحنين إلى "اللّمة" مثلما أفعل الآن. 

ذلك أن القاهرة كمعظم مدن الشرق، ذات دراعات طويلة تحيط بك وتحتضنك ليس باعتبارك غريبًا بل ضيفًا مرغوبًا دائمًا.

كنا نعمل في المستشفى ما يقارب ال ٨٠ ساعة أسبوعيًا وعلى الرغم من كل الضغوطات لم نتحوّل في أي لحظة إلى مكائن، كانت الحياة الاجتماعية حاضرة وبقوة في العمل وخارجه، كل مكان تذهب إليه يتحوّل بطريقة ما إلى دائرة اجتماعية، أنت تتثرثر وتتبادل الحكاوى في السوبر ماركت والصيدلية في آخر الشارع، ومع بائع الخضار والكوافير والمواصلات والجيران، ناهيك عن الزملاء والأصدقاء الذين ينبتون حولك من كل صوب.

هذا في وطنٍ بديلٍ فما بال وأنتَ في حضن بلدك الأم وبين أهلك وأحبتك، لازال مذاق كل التفاصيل حاضرًا كأنه بالأمس، أقول مذاق لأني لا أجد أي توصيف آخر لما يمكن أن يشعر به المرء وقت العصرية، عندما كنتُ المسئولة الرسمية عن توزيع الأطباق للجيران.. في عدن هناك عرف خفي ينص على توزيع أشياء من مائدة فطورك لسبعة جيران آخرين ، تقل الحسبة أو تزيد، ولكن لابد من عملية التبادل هذه..

المذاق الذي لازلت أشعر به ونحن نتجمع للصلاة، أو لاحقًا لمشاهدة التلفاز أو للثرثرة، بيوت لا تخلو من زائريها وحياة دافئة، بسيطة وعفوية، ليس كمثلها شيء. 

في أول أيام تواجدي في ألمانيا وفي المدرسة اللطيفة التي درست فيها اللغة كان هناك موظف يساعدنا إذا ما احتجنا إلى أي شيء متعلق بالإجراءات وخلافه، ساعدني ذات مرة في أمر وكنت كلّما أراه بعدها أسلم عليه وأسأله كيف حالك؟ في كل مرة كنت أجد أنه يستغرب سؤالي هذا خاصة وأنه يأتي كنوع من إلقاء التحية، تكرّر الموقف فاستوقفني قبل أن أتابع طريقي ذات مرة، بعد أن ألقيت عليه التحية ملحوقة بتوأمها السيامي في ثقافتنا؛ السؤال عن الحال : أهلًا، كيف حالك؟ 
قال نحن لا نسأل هنا عن الحال من باب إفشاء السلام، نحن نسأل عندما نريد حقًا أن نعرف أمرًا عن هذا الشخص، لذا نسأله عن هذا الأمر بالتحديد، أو إذا كنا نعلم مسبقًا أنه يمر بظروف معينة وبالتالي نريد الاطمئنان عليه، أو إذا كان لا يبدو على مايرام؛ شريطة أن يكون لدى كلينا الوقت لإجراء هذا الحديث عن الحال. والأهم أن تكون قد وصلتَ لدرجة من المعرفة بهذا الشخص تؤهلك لتلقي معلومات عنه!

هذه المعلومة المحبطة هيأت لما جاء بعدها من إحباطات، تتعلق بغياب معظم أشكال التعاملات الحميمية التي تعودنا عليها في بلداننا، مثل تبادل الحديث العابر مع المحيطين، الفضفضة، الفضول، معرفة تفاصيل عن الحياة الاجتماعية للمحيطين بك، السؤال عن الحال، وصناعة أصدقاء من زملاء العمل أو الدراسة. هذا الخواء يجعلك تعذر كبار السن الذين قد تصادفهم في المواصلات أو الأسواق ورغبتهم الجارفة في الحديث المسهب دون توقف، أنهم يعوضون عن سنوات من الصمت والإنكفاء، ربما يشعرون أن لا شيء من مشاغل الحياة او العمل استحقها. 

في أوروبا تغيب غالبًا الفوارق الاجتماعية، لكن تحضر بدلًا عنها الفواصل الاجتماعية، والكثير الكثير من الجدران العازلة.

مقالات الكاتب

أصبحتُ أمًا!

قلتُ لصديقتي رنا عندما سألتني عن إحساسي بالأمومة بعد أيام عصيبة مرتْ علينا أنا وطفلي، بأنها "إحساس د...

سنة الخروج من فخ المنتصف!

عيد ميلادي، سنة أخرى تركض لا إلى البداية ولا نحو النهاية، عام آخر يخرج من قبضة المنتصف، منتصف الثلاث...