ما سبب انتشار ظاهرة الانتحار بين رواد الاعمال؟

في الرابع والعشرين من يناير/كانون الثاني عام 2018، انتحر "ماو كانكـان" في منزله بعد أن قام بفصل أنبوب الغاز في المطبخ، وتركه عاريا لينتشر الغاز في أنحاء المنزل ويلقى مصيـره الأخير وهو ما زال شابا في الرابعة والثلاثين من عمره. لم يترك ماو أي رسائل أو ملحوظات تشرح أسباب انتحاره أو تلمّح لأي من دوافعها. هكذا وبدون أي ضجّة من أي نوع، رحل في هدوء، تاركا وراءه مزيجا من الصدمة والشفقة وعلامات الاستفهـام.

كريتر سكاي/ وكالات


لم يكن ماو كانكان شابا صينيا عاديا، وإنما رائد أعمال ناجح تمّ تكريمه ذات مرة كواحد من أربعة شباب صينيين موهوبين في مجال التقنية. في سن مبكرة، أسس شركة "بكين تايمز التقنية" (Beijin Times Majoy Tech Co)، واحدة من أهم شركات تطوير الألعاب في الصين، حتى إنه في العام 2004 قيل إن شركته قامت بعمل ثوري في صناعة الألعاب العالمية.



كان اسم "ماو كانكـان" معروفا في وسائل الإعلام الصينية الرسمية، وتم تقديمه العديد من المرات كنموذج تشجيعي للشباب الرياديين في الصين للاقتداء به وبإنجازاته كشاب واعد صنع نجاحه بنفسه. لذلك، مثّل خبر انتحاره صاعقة كبيرة في الأوساط الإعلامية والريادية الصينية التي تعاملت مع وفاته بأسى بالغ، وكتبت الكثير من المقالات والاستقصاءات تحاول أن تحلل أسباب انتحاره بهذه الطريقة.



ما الذي أصابك يا ماو؟


   

كانت الأمور طبيعية حتى جاء العام 2015، واندمجت الشركة التي أسسها ماو كانكان مع شركة أخرى، فتحوّلت إلى كيان جديد باسم "Zhejiang wanjia" واستمر هو مديرا تنفيذيا للشركة. كان الاندماج ناجحا، وقام بإنجازات جيدة في مجالات الألعاب والهواتف الذكية وخدمات الإنترنت المالية وغيرها.


ومع ذلك، وفي نهاية العام 2016 بدأ عدم الاستقرار، وتراكمت الديون على الشركة بقيمة 7 ملايين دولار تقريبا، وهو الذي جعل الشركة تطلب مساعدة خارجية بأن يقوم مستثمـرون بشراء أسهم أساسية للشركة. توالت الأحداث بشكل سيئ حتى وصل الأمر لاتهام الشركة أنها تخدع المساهمين وتقوم بأعمال مخالفة للقانون الصيني. النتيجة كانت المزيد من الانهيار للشركة بشكل حاد، جعل المساهمين الأصليين في الشركة يطالبون ببيع أسهمهم وتصفيتها للخروج منها، وهو ما جعل "ماو" يضع منزله وسيارته تحت الرهن للاقتراض من البنوك لتسديد الديون.



بمرور الوقت، تراكمت الديون وتحوّلت حياة رائد الأعمال الصيني الشاب الواعد إلى جحيم، انتهت بإغلاق الشركة بالكامل في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2017، إلى جانب المزيد من الديون المستحقّة عليه بقيمة 316 ألف دولار يجب سدادها كأجور للعاملين والموظفين في الشركة الذين لم يحصلوا على مستحقّاتهم ولجأوا للقضاء. بعد عدة أشهر، أقبل الشاب الثلاثيني الواعد الذي ملأ السمع والأبصار في عالم ريادة الأعمال الصيني الهائل على الانتحار في منزله بعد أن انتهت كل آماله بإعادة الشركة إلى الحياة، وتراكم الضغوط عليه لدرجة لم يستطع تحمّلها. 

   


ريادة الأعمال أم ريادة الانتحـار؟ 



أوستن هاينز رائد أعمال ناجح أقدم على الانتحار وهو في الحادية والثلاثين من عمره بعد معاناة من الاكتئاب (مواقع التواصل)

  

لم يكن ماو كانكان الأول، بل كان اسما واحدا في سلسلة طويلة من حوادث الانتحار المدهشة التي ارتكبها روّاد الأعمال المشاهير في السنوات الأخيرة. أوستن هاينز رائد الأعمال الشهيـر في وادي السيليكون ومؤسس شركة "Cambrian Genomics" المتخصصة في تقنيات التكنولوجيا الحيوية المتقدمة -تأسست في العام 2011-، أقدم هاينز على الانتحار في مايو/أيار 2015 عن عمر يناهر 31 عاما بعد معاناة طويلة مع مرض الاكتئاب. وبعد عامين من انتحـاره، عانت الشركة من أزمات مالية، مما جعلها تعلن إيقاف عملياتها وتصفية نفسها في نهاية العام 2017.


  


في يوليو/تموز 2015، أقدمت رائدة الأعمال الأميـركية فايغي ماير على الانتحار قفزا من سطح إحدى البنايات في نيويورك، لتنهي حياتها وهي في مطلع الثلاثينيات من عمـرها بعد حياة أكاديمية وعملية حافلة، نالت فيها الماجستير في المحاسبة وشهادة متخصصة في علم البيانات، فضلا عن تطوير العديد من التطبيقات المتميزة في حياتها العملية، انتهت بتتويجها في تأسيس وإدارة شركة "Appton" الناشئة المتخصصة في تطوير الهواتف وحلول الإنترنت. قبل انتحارها، عانت ماير من اكتئاب شديد، بحسب ما أوضح مجموعة من أصدقائها المقرّبين بعد رحيلها.



أما آرون سوارتز رائد الأعمال التقني الأميركي الشهير، أحد الشركاء في موقع "Reddit" النقاشي الأشهر عالميا، والمبرمج والناشط في المجالات التقنية، فقد أقدم على شنق نفسه في بداية العام 2013 ليغادر الحياة عن عمر يناهز 26 عاما، بعد أن كتب في مدوّنته الخاصة عددا من التدوينات تحكي مشاكله مع الاكتئاب العنيف الذي عاناه في نهاية حياته، ومروره بمرحلة "اللا جدوى" المحيطة به في كل مكان. 



الأمر لم يختلف كثيرا بالنسبة إلى جودي شيرمان مؤسس شركة "Ecomom" الناشئة المتخصصة في التجارة الإلكترونية، حيث أطلق النار على نفسه أثناء وجوده في سيارته في ضاحية بعيدة في ولاية نيفادا، بعد عدة أشهر من إغلاق شركته في العام 2013 راحلا عن الحياة بعمر يناهز السابعة والأربعين، بعد تقلبات ما بين نجاح مشروعه أحيانا وفشله في أحيان أخرى. وبعد عام واحد من انتحاره، قام أحد زملائه "مات بيرمان" الذي كان يعمل في مشروع بالتعاون مع جودي شيرمان في شركته، قام هو أيضا بالانتحـار في شقته.





  

أما رائد الأعمال الشهيــر "إيليا زيتوميرسكي" الأميـركي من أصل روسي والذي أسس شبكة "Diaspora" العالمية الشهيرة للتواصل الاجتماعي، فقد أقدم على الانتحـار في العام 2011 وهو بعمـر 22 عاما في وقت يعيش فيه أزهى نجاحاته الريادية والشخصية على الإطلاق. كان نجاحه طاغيا لدرجة أن شبكته الاجتماعية كانت تُمثّل تهديدا حقيقيا لفيسبوك جعل صحيفة النيويورك تايمز تُطلق عليه اسم "قاتل فيسبوك" (Facebook Killer) في العام 2010. ومع ذلك، وبالرغم من هذا النجاح الكبير، أقدم على الانتحار بعد عام واحد من هذا الاحتفاء به في الصحافة.



كان نبأ انتحـاره بتسريب الغاز حدثا مجلجلا في الصحافة العالمية وبين روّاد الأعمال، وقال شريكه المؤسس إن إيليا كان يعاني من أزمة نفسية وعقلية عنيفة هي التي تسببت في انتحاره، بينما قالت والدته إنها تعتقد أن ابنها لو لم يقم ببناء مشروعه الريادي واستمرّ في تعليمه الجامعي الاعتيادي، لكان حيا حتى اليوم. (11، 12، 13، 14)

   


ريادة الأعمال والصحة النفسية والعقليـة


مع تنامي ظاهرة ريادة الأعمال عالميا بشكل واسع، كان من الطبيعي أن تسلط المؤسسات الضوء على الحالة النفسية والعصبية والعقلية التي يمرّ بها روّاد الأعمال بشكل دراسي بحثي منتظم. بحسب دراسة أجرتها مؤسسة غالوب (Gallup) العالمية المتخصصة في استطلاعات الرأي، أفادت أن 30% من روّاد الأعمال يعانون من مرض الاكتئاب مقارنة بـ 15% من أصحاب المهن الأخرى. بمعنى آخر، واحد من كل ثلاثة روّاد أعمال يعاني من الاكتئاب.

  

أشارت الدراسة أيضا إلى أن 45% من روّاد الأعمال يعانون من مستوى ضغط أكبر من المهن الأخرى بشكل واضح، بينما 34% منهم يعانون من فرط التوتر الزائد. إلا أن هذه النسب التي تبدو متوسطة، اختلفت تماما في دراسة حديثة نشرتها مؤسسة "سبرنجر لينك" (Springer Link) العريقة، أفادت أن 72% من روّاد الأعمال الذين أُجريت عليهم الدراسة عانوا من متغيرات في صحتهم العقلية بشكل مباشر أو غير مباشر.



بالإضافة إلى ذلك، نشرت الدراسة معدلات ملحوظة من الأمراض والأزمات النفسية والعقلية التي تفوّق فيها روّاد الأعمال على مجموعات مقارنة (Comparison Group) أولا، وعامة السكان (General Population) ثانيـا بخصوص أربعة أمراض نفسية وعقلية تحديدا هي: الاكتئاب (Depression)، واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD)، والإدمان (Addiction)، والاضطراب الوجداني ثنائي القطبBipolar Diagnosis)7).

  


الدراسة أوضحت أن 30% من روّاد الأعمال يعانون من الاكتئاب أكثر من غيرهم، و29% يعانون اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، و12% يعانون من مشاكل الإدمان، و11% من روّاد الأعمال يعانون من اضطراب ثنائي القطب. كل هذه النسب توضح زيادة ملحوظة لهذه الاضطـرابات بين رواد الأعمال مقارنة بمجموعات أخرى في مهن مختلفة، وتتفوق أيضا على النسب العادية لعامة السكّان.


      




لماذا كل هذه المعاناة؟!


   "تأسيس وإدارة شركة ناشئة هو أمر مشابه لمضغ الزجاج والنظر المستمر إلى الهاوية. بعد فترة، ربما تتوقف عن النظر إلى الهاوية، ولكن مضغك للزجاج سوف يستمر إلى الأبد ولن يتوقف. إذا كنت تظن أن تأسيس شركة ناشئة هو أمر ممتع فقط، فهذا خطأ. تأسيس شركة ناشئة أمر مؤلم، وإذا لم تتحمله فمن الأفضل أن تعثر على وظيفة مناسبة في مكان ما. ستعيش حياة سهلة، وضغطا أقل، وسيكون لديك وقت ممتاز لأشياء أخرى" – إيلون ماسك، رائد الأعمال الشهير مؤسس شركتي "تيسلا" و"سبيس إكس"

    


  

لا شك أن العناصر الباعثة على المعاناة النفسية التي تراود عددا كبيرا من روّاد الأعمال متشعبّة للغاية ولا يمكن حصـرها في أمور معينة، وبالطبع الكثير من هذه العناصر قد تكون هي نفسها السبب في أمراض نفسية وعقلية تعاني منها شرائح أخرى، بناء على أزمات أو تاريخ عائلي مع الأمراض النفسية والعقلية التي تلعب عاملا حاسما في هذا الأمر. ومع ذلك، وبحسب الدراسة السابقة، يبدو واضحا شيوع أمراض نفسية معينة بين روّاد الأعمال أكثر من مهن أخرى، وذلك بسبب اجتماع بعض العناصر المشابهة التي تولّد ضغطا قد يتحوّل إلى انفجار لاحقا. 


   


واحد من أهم الأسباب الشهيـرة في الاضطرابات النفسية لروّاد الأعمال هو الضغط المزمن، أو كما يُعبّر عنه أحيانا بـ "التسمم من وراء الضغط المزمن" (The Toxicity of Chronic Stress). رائد الأعمال هو أكثر الأشخاص تعرّضا للضغط، سواء في متابعة الموظفين وتدرّج تأسيس المشروع من بداياته، والقلق المزمن من الفشل أو الإفلاس، وحتى مباشرة الأعمال بنفسه بأدق تفاصيلها، مما يجعله ينتقل من حالة "الضغط العادي" الذي يولد الإبداع والإنتاج، إلى حالة مزمنة غير متحمّلة من الضغط المستمر، يؤثر بشكل واضح على حياته النفسية والعصبية. (16)

  


أما "الشغف الزائد" فهو عنصـر آخر من العناصر الأساسية التي يجب وجودها في رائد الأعمال وعادة ما يتم الحديث عنه باعتباره المفتــاح الأهم للنجاح في هذا العالم. هذا صحيح إلى حد كبير لأنه الشيء الوحيد الذي يجعل رائد الأعمال مدفوعا بالاستمرارية، إلا أن زيادته عن الحد اللازم قد يؤدي إلى مشاكل صحية عنيفة على المستوى النفسي.

  


بحسب دراسة أصدرتها "هارفرد بيزنس ريفيـو" بعنوان: "ما الذي يجعل رائد الأعمال يحترق"، تسلط الضوء على ما بين ريادة الأعمال والاحتراق (Burnout) بمعناه النفسي والوظيفي وعلاقة كليهما بالشغف، خلصت الدراسة أن الشغف الزائد الذي يحمله روّاد الأعمال لمشـروعاتهم قد يؤدي إلى نتائج شديدة التأثير سلبيا في شخصيـاتهم على المدى القريب والبعيد، ويتحوّل بدوره إلى ضغط مستمر تظهـر أعراضه في انسحاب اجتماعي كامل، وشعور دائم بالذنب مهما بذلوا من جهد في العمل، فضلا عن هجمات اكتئابية لفترات طويلة، وأعراض الضغط المزمن المعروف مثل الصداع وآلام الجسد ومشاكل القلب. (19)



أما السبب الثالث الذي يعتبر من أكثر العوامل تأثيرا على نفسية روّاد الأعمال هو الخوف من الفشل، الخوف من انهيار المشروع وعدم نجاحه وتكبّد الديون وعدم القدرة على إثبات الذات أثناء إدارة المشروع، حتى عندما يحقق المشروع نجاحا جيدا، فيبقى الخوف من الفشل والعودة إلى المربّع الأول هاجسا دائما في ذهن رائد الأعمال، خصوصا مع تنامي المهـام والتوسّعات بشكل يحقق أرباحا كبيرة من جهة ويحقق أيضا أعباء كبيرة من جهة أخرى. هذا الشعور يخلق دائما حالة من التوتر الزائد (Anxiety).(20)

   


هذه العوامل وغيرها تعتبر من أكثر الأمور التي يتشارك فيها روّاد الأعمال حول العالم والتي تتسبب في تغيير استقرارهم النفسي إلى مراحل شديدة الخطورة من الإصابة بالهجمات الاكتئابية أو نقص التركيز أو الإدمان أو القلق المفـرط، والتي قد تؤدي بهم إلى ارتكاب أفعـال مأساوية مثل إيذاء النفس أو الانعزال الكامل عن المجتمع وصولا لأخطر ما يمكن فعله: الانتحار.



في النهاية، لكل شيء وجهان، أحدهما مضيء والآخر مظلم. عالم ريادة الأعمال بكل ما فيه من بريق وأضواء وشهـرة ونماذج ساطعة لشباب يبدو أنهم يقضون أوقاتا رائعة، من ناحيـة أخرى له أيضا جانب مظلم مليء بالتوتر والضغط والأزمات النفسية التي قد تتوسّع لتتحوّل إلى أزمات مزمنة نهايتها مأساوية. التوسط بين الجانبين هو الشيء الآمن الذي ينبغي أن يهتم به كل رائد أعمال، البقاء في منطقة العمل والإنتاج والإبداع وفي الوقت نفسه الاستمتاع بحياتهم والتعامل معها بالهدوء المطلوب، بلا تفريط ولا إفراط في كلا الجانبين.


نقلا عن الجزيرة نت