من تونس ... أعتذر لأهلي في عدن

أعتذر بكل أسف وأسى، بعد مضي أكثر من ربع قرن، لأهلي في عدن الطيبين والمسالمين وخصوصا لأهل حي (التواهي)، لكوني كنت متسببا في إقلاق سكينة هذه المدينة الآمنة.. عندما أطلقت عن غير قصد رصاصة في الجو سهوا مقصرا في أداء واجبي ومهملا، وبدلا من أن أحافظ على الأمن والسكينة تسببت في نقضهما، فاقبلوا اعتذاري، ولكم الحكم.
وما دفعني لهذا الاعتذار لم يكن فقط الأخ العزيز حافظ بن شجاع، لأني لا ألومه عندما تذكر تلك الرصاصة وتلك الليلة، لأنه أراد أن يقارن بين حالنا اليوم وما كنا عليه في ذلك الزمن الجميل، زمن الأمن والأمان والنظام والقانون! متألمين لحال هذه المدينة (عدن) التي أضحت اليوم بطعم الرماد!.
وحاشاه أن يعايرني ويذكرني بشيء يسوؤني! لكنها المقارنة والذكرى التي قد تنفع المتذكرين، وما بقاء تلكم الحادثة في ذهنه إلا دليل على أنها كانت حادثة غير عادية.
عندما خرجت الرصاصة مني سهوا في منتصف تلك الليلة اللعينة، ضجت المدينة واشتعلت البلاغات باسمي في جهازنا اللاسلكي ودوت: "مجيب الرحمن أطلق رصاصة!.. لقد خربت طمأنينة المدينة وعكرت صفو لياليها". 
عدت إلى المعسكر، وعلت علامات الاستفهام والإنكار وجوه الزملاء. كان حدثا استثنائيا.. لم تطلق السرية أية رصاصة منذ أن تسلمنا مهامنا كـ(قوات أمن خاصة) قبل ثلاثة أشهر.. وكانت قد مضت أشهر على تدريبنا العالي. بت حزينا متوجسا مضطربا تلك الليلة!. واشتعلت الأفكار في رأسي. سيقام لي مجلس تأديب. سأحال إلى محاكمة عسكرية... كانت التعليمات واضحة: "لا تطلقوا النار مهما حصل"، وقبل أن نعقب: "حتى ولو ...." نقاطع باقتضاب "حتى ولو". 
كانت المدينة خالية من السلاح، ولم يكن يسمح لأحد بأن يتجول بسلاحه.
ومرت ساعات جمراً، وجاء التقرير من قائد الدورية التي كنا فيها شافعا لي، ربما أشفق ذلك الضابط علي، بعدما رأى  الوجوم والحزن باديا على وجهي: "الرصاصة أطلقت فوق الواجب، إذ رفضت سيارة هيلوكس التوقف. لكنني لم آمره أن يطلق النار".
حمدت الله كثيرا، وسجدت لله شكرا، وغرمت قيمة الرصاصة مضاعفة عند تسليمنا للبنادق والرصاص، فقد كنا نسلم العهدة في صباح اليوم التالي للدورية لمخزن السلاح. لكن العار الذي ظل يلاحقني أنني سلمت العهدة ناقصة. وقيد ذلك في السجل الكبير لمخزن الأسلحة. وكم كان بودي أن أمحو اسمي من ذلك السجل، أو أجد سبيلا لإحراقه، وطمس (العار) الذي لحق بي!. ربما بعد ذلك ولهذا السبب (ربما) بأسابيع رأت القيادة الأمنية أن تحيل كل الشباب المجند إلى معسكر (اليرموك)، وكان يديره نخبة من المدربين الفلسطينيين الأكفاء، لتلقي مزيد من التدريبات المكثفة رغم تدريباتنا السابقة في معسكر ردفان، وكانت نوعية ومميزة وأقوى من تلك التي يتلقاها أخوتنا في معسكر (العند). تدربنا فيها على كل أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
كنا نعترض أن هذه التدريبات لا تتناسب مع كوننا مجندين نقضي الخدمة لعامين ونرحل، فيقال لنا "لقد وقع الاختيار عليكم لتكونوا قوات نخبة خاصة، ونحولكم إلى جنود ثابتين وبمزايا خاصة لا تتعارض مع مستقبلكم". 
وأمضينا في معسكر اليرموك الذي كان يقع شمال غرب دار سعد وعلى مقربة من القرية الفلسطينية قرابة ثلاثة أشهر. حظينا بتدريبات شاقة، أغلبها بدنية، ولم يكن فيها التدريب على الطلق الناري. فمن تدريبات اللياقة البدنية بعد صلاة الفجر والجري لبضعة كيلومترات، إلى الاشتباكات بالأيدي (الحلبة) وهذا التدريب الثاني، إلى (القتال بالرماح - سونكا)، رماح البندقيات، والتدريب الرابع الحواجز والحبال والاقتحام، والخامس (الكونغ فو) وبعد العصر السباحة، يتخللها بعض الاستراحات للفطور والغداء والمحاضرات النظرية ثم العشاء. كانت كل تلك التدريبات في يوم واحد!. حيث لا يأتي وقت المغرب إلا ونحن منهكون، نبحث عن الفراش، خائرة قوانا!.
ولم يبق لنا إلا القفز المظلي، وكنا نتهيأ له لولا اندلاع (حرب صيف 94)، ورغم ذلك كنا في مقدمة الصفوف التي اقتحمت معسكر (الأمن المركزي وكان يقع في الشمال الشرقي لمدينة دار سعد بعددنا القليل، وأسر المئات من أفراد الأمن المركزي في اليوم الأول، دون أن تقع أية خسائر بشرية من الجانبين!.  قد تصيبكم الدهشة كيف لمعركة أن تتم دون إراقة للدماء؟!. لقد كانت التعليمات والأوامر واضحة: "لا تطلقوا النار على أي فرد من أفراد الأمن المركزي، وعاملوا الأسرى بكل مهنية وشرف عسكري وأخلاق". وإذا اعترض أحدنا: "حتى ولو...."، يأتي الرد حاسما: "حتى ولو"!.
"... سلموا أنفسكم أنتم محاصرون، ولكم الأمن والأمان، (معززين مكرمين)، فأنتم أخوتنا!"، هكذا كانت الميكرفونات تدوي. لم ترق قطرة دم واحدة!. إلا ما كان من طلقة خرجت من أحد البنادق الآلية التي سلمها (الأمن المركزي) نتيجة العجلة في أخذ بنادق (المستسلمين) وتكديسها دون فحصها، فبعض البنادق كانت (معمرة) ومفتوحة الأمان، لتستقر الرصاصة في ظهر واحد منا (من شباب التواهي)، لا أذكر اسمه.
حتى الأسلحة التي تم تسليمها لنا، لم نعدها (غنيمة حرب) وسلمت لأميني المخازن الأخوين نصر وعلي الزعبلي!، وقاما بدورهما بتسليمها إلى لجنة خاصة نزلت للاستلام!.
أكرر اعتذاري وأسفي!، متجردا من كل أوصافي وألقابي، أنا المجند مجيب الرحمن حسين محمد، الدفعة الثالثة، سرية الأمن الخاص (النجدة). 
وشكرا للإعلامي الذي فطن لهذه الذكرى المتذاكرة، ووظفها في سبيل المقارنة بين حال المدينة اليوم وحالها في الأمس، حيث كان الأمان والنظام والقانون!.
أكرر اعتذاري وندمي!.

مقالات الكاتب