عِنْدَمَا تَنبأَ " باكثيرُ" بقيامِ إسرائيلَ وَسُقُوطِها (شايلوك الجديد)
الحِسّ الفنيُّ عندَ بعض الأساطين الأدبيّة مساوٍ للتاريخ وحقائقه في...
في موسم الحج كان يروق لوالدي - رحمه الله - الترنم بقصيدة ذائعة لعبد الرحيم البرعي ، و كان يشفعها - دوما - بحكايته الخرافية التي ننصت إليها بشغف كبير .
سأرويها، و لكن لي وقفات مع ( عبدالرحيم البرعي ) :
أولها قبل عقد من الزمن، مع أستاذ من السودان يعمل محاضرا في التربية الإسلامية، حيث سمعته يترنم بانشودة ِ ( أغيب وذو اللطائف لا يغيب) استمتعت بأدائه وصوته ، و بعدها اختلفنا في أصل الشاعر و بلده ، حيث زعم هو أن الشاعر سوداني وأنا أُصرُّ على أنه يماني و بعد بحث وتقصٍّ استطعتُ أن أؤكد له رجحان قولي و سداد رأيي بأن ( عبدالرحيم البرعي ) يماني فأقر الأستاذ السوداني بذلك و أخبرني أن ثمةَ شاعرًا سودانيًا متصوفًا انتحل اسم البرعي من فرط إعجابه به ، لكن الغريب في الأمر أن شهرة البرعي في السودان الشقيق أكثر من شهرته في اليمن وبقية الأقطار العربية.
الوقفة الثانية كانت مع المنشد العدني الرائع ( عبدالرحمن عبدالكريم ) وكنت أدرِّسُهُ النقد في كلية الآداب ، و كان له موقف سلبي من البرعي ، ربما لنزعته السلفية ، فأعطيته ديوان البرعي وبعض التراجم له ليكون بحث تخرجه ، لكنه عاد إليَّ منكرا شطحات ( البرعي) بعد أن قرأ ديوانه .
( اقرأ بروحك لا بعقلك ) هذا ما قلته له، و بعد مدة ليست بالطويلة تعجبت منه إذ تغير موقفه و جعل ينشد - في كل محاضرة لي -من شعر البرعي وأنجز بحث تخرج مميز.
و لسيدي عبدالرحيم قصيدة عزيزة على قلبي، تلك التي ترنم بها والدي، وبصدد الحديث عن مناسبتها- من فرط إعجابي بها كنت أجعلها مقررة على طلابي في كل عام و في جميع المراحل، و أطلب منهم إنشادها بأداء جماعي و فردي، و أنا على يقين أنهم يتذكرونها إلى اليوم.
و هذه الوقفة الثالثة و لن أطيل عليكم ، وإلى حكايته
( مناسبة القصيدة ) :
البرعي شاعر و متصوف ربَّانيٌّ عاش قبل حوالي ستمئة و ثمانية و ثلاثين عامًا في ( بُرَع ) في محافظة الحديدة ( حاليا ) في قرية النيابتين، و تقول الخرافة : أن قبره يتحرك من مكانه بمقدار شبر أو ذراع صوب مدينة رسول الله _ صلى الله عليه و سلم _ شوقًا و حبًا لأنه حرم من وصال حبيبه وزيارته وزادت المخيلة الجمعية أن وضعت حديثا لا أصل له و نسبته للرسول صلى الله عليه و سلم - يقول فيه : ( لا تقوم الساعة إلا وقبر البرعي عند قبري ) !!! وأصل الحكاية - كما سمعناها من عامة الناس _ أن البرعي كلما عزم على الحج يصاب بالمرض أو أنه يحج ولكنه يمرض وهو في طريقه إلى المدينة ، ويعود مهمومًا حزينًا في كل مرة إلى ( بُرَع) و لكن في آخر مرة يعقد النية على الزيارة مهما كلفه ذلك ، و يداهمه المرض في الطريق كالعادة لكنه يمضي غير مبال ٍ بآلام المرض حتى أنه حبا على يديه و ركبتيه حبوًا و زحف على بطنه زحفًا حتى تقطع بطنه و خرجت أمعاؤه ، و قيل أن هذه القصيدة هي آخر ما قاله ، و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، و تذكرُ الأسطورةُ أنَّ أناسًا زاروا قبره بعد سنين ورأوا أنه قد تحرك بالفعل !!!
أما سبب تداول الناس لتلك القصيدة وازدهارها عند العامة قبل الخاصة فهو أنهم قد أضافوا للأسطورة بُعدًا دينيًّا قائلين : (( أن من يحفظ القصيدة عن ظهر قلب ويرددها فكأنما حج البيت وزار قبر الرسول عليه الصلاة و السلام ، أو أنهم بالفعل يجدون أنفسهم في مكة ، و المدينة .
ربما أدركتم كثيرًا من الآباء يحفظونها ويترنمون بها ، و خاصة عند اقتراب موسم الحج مثلي ، لكن _ سبحان الله ! _ عندما كادت تندثر بُعثت من جديد .
يا راحلين إلـى مِنـى بقيـادي *** هيّجتمو يوم الرحيـل فـؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتـي *** الشوقُ أقلقني وصوت الحـادي
وحرمتمو جفني المنام ببعدكـم *** يا ساكني المنحنـى والـوادي
ويلوح لي مابين زمزم والصفـا *** عند المقام سمعت صوت منادي
ويقول لي يا نائمًا جـد السُـرى *** عرفات تجلو كل قلبٍ صـادي
من نال من عرفات نظرة ساعةٍ *** نال السرور ونال كل مـرادي
تالله ما أحلا المبيت على منـى *** في ليل عيدٍ أبـرك الأعيـادي
ضحوا ضحاياهم وسالت دماؤها *** وأنا المتيم قد نحـرتُ فـؤادي
لبسوا ثياب البيض شارات اللقا *** وأنا الملوع قد لبسـت سـوادي
يارب أنت وصلتهم صلني بهـم *** فبحقهـم يـا _رب _ فُـك قيـادي
فإذا وصلتـم سالميـن فبلغـوا *** مني السلام أُهيـل ذاك الـوادي
قولوا لهم عبـد الرحيـم متيـمٌ *** ومفـارق الأحـبـاب والأولادِ
صلى عليك الله يا علـم الهـدى *** ما سار ركبٌ أو ترنـم حـادي
د . مجيب الرحمن الوصابي
استاذ الأدب والحضارة في جامعة عدن والجامعة اللبنانية الدولية