الإنسان اليمني الأخير! ذاكرة مفقودة

الإنسان اليمني الأخير يتقاسم الضياع مع ذاكرته، الفقر والاغتراب، علينا أن نواجه- بشجاعة أدبية- هذه الكارثة : (الذاكرة المفقودة للإنسان اليمني)
   كتاب مخطوط نفيس في غرفة تحترق  وبها طفلة...
من تنقذ أولًا؟!
الطفلة، أم الكتاب المرقوم ؟؟!! سؤال استفزني به أحد الطيبين؛  لإدراكه شغفي بالأوابد سيما ( المخطوطات).
: (الطفلة!! الطفلة!!! ... أجبته دون تفكير وتردد؛ ليس لأن لي طفلة لم أغن لها مذ عام وتسعة أيام، بل (الإنسان) أولًا، وأخيرًا، مقدم... كان طفلًا، شيخًا، أو امرأة، ولو كان (مجنونا )، لا تُرتجى منه منفعة، فحياة (الإنسان ) على أرضه غاية، وكرامته أولوية؛ والإنسان اليمني الأخير مهدورة كرامته، مقهور الإرادة، أوشك أن يُبعث بلا ذاكرة ولو كان له عقل (ذاكرة) ما كانت أنهار الدم تجري في أرضه.
هذه الحرب- يا سادة  -دليل على أن الإنسان اليمني الأخير يحيا بذاكرة مهترئة، بل تالفة.

ماذا لو استطعنا إنقاد (الطفلة والمخطوطة ) معًا!!؟ (الإنسان ) و(ذاكرته).
كيف للإنسان أن يحيا بلا تاريخ، بل كيف للطفلة أن تعيش و تتعلم دون انتماء وميراث ووثائق؟؟ ماذا لو استيقظت تلكم الطفلة، والعولمة على فجر يوم صبي، وسألتكم من أنا ؟؟!

   ثمة من يعبث بمستقبل أطفالنا بقصد أو بغير قصد.

   الإنسان اليمني (الأول) منذ أن اختط وأقياله هذه الأرض مع أنبيائه (بلدة طيبة ) غبطت، فسميت ( العربية السعيدة) هكذا حدَّث التاريخ. تقلبت عليه الأحوال؛ والأيام دول، لكن ذاكرته ظلت مزدهرة لا عطب فيها ولا خرف.
اخترع الكتابة (المسند)، ثورة معرفية للدنيا، جاءت أشكال حروفه مشابهة لعمارته الأرض، و ولعه بالأعمدة التي شيد بها قصوره، ومعابده، سدوده، و أبواب مدنه، مخلدًا فيها ذاكرته وموثقًا تاريخه، ومآثره؛ ويكون (المسند) ذاكرة العرب وقلمهم الأول، فساد الجزيرة العربية كلها  وتنحسر أرضها أو تكاد عن ( أوابده) في عراقها، وشامها، ونجدها، وحجازها إلى مصر، وبلاد الإغريق، ولايزال إلى يومنا في الحبشة.
      
    اليوم ذاكرة الإنسان اليمني الأول تتعرض للعبث، والتهريب، والسرقة في مهرجانات الدبلوماسيين، وحقائبهم، أو الغرف المظلمة لعلية القوم.
ثمة من يعبث بقصد، أو من غير قصد بذاكرتنا، وتاريخنا.
 
 حتى عندما تنازل الإنسان اليمني الأول عن خط ( المسند) للكتابة (النبطية) الحالية لتقديرات (دينية)  لم يتنازل عن ذاكرته إلى عهد (نشوان الحميري) فكان الإنسان العادي (المثقف) في العربية الجنوبية، يستطيع قراءة (مسنده)، وتهجئة حروفه بيسر، والنقل عنها إلى أن أتت عقائد الأئمة الشيعة، وتمكنت من ربط (المسند) وذاكرة اليمني القديم بالوثنية، والشعوذة؛ هنا بداية الارتباك والضياع لذاكرة الإنسان اليمني الأول!!!   
   
كانت ذاكرة الإنسان اليمني المعين الأول للمرويات الإسلامية الإخبارية المبكرة، فقد قدم (كعب الأحبار) من صنعاء اليمن إلى الحجاز؛ ليحدث الصحابة، ويحدثونه، بل كان تأثيره عليهم أكبر؛ لأنه صاحب علوم، وأخبار، واطلاع، فتتشرب الثقافة الإسلامية مروياته اليمانية ... ثم يقدم (وهب بن منبه )الحميري أول المؤلفات الإسلامية عن ملوك حمير وأخبارهم، فيقتبسها (ابن هشام ) في (التيجان) وله كتاب مفقود أيضا يسمى ( المبتدأ)، الذي يشير عنوانه إلى ابتداء الخليقة، وقد اعتمد عليه ابن قتيبة في كتابه (المعارف)، والطبري في كتابه (تاريخ الرسل والملوك)، والمقدسي في كتابه (البدء، والتاريخ).
 
    (كعب، و وهب) قدما مرويات كانت مزدهرة في اليمن؛ يقول عن نفسه (وهب بن منبه) أنه : قرأ من الكتب السماوية سبعين كتابا !!! 
لاتهمنا مبالغة وهب، أو تخيلية  كعب، ولا مقام هنا؛ لتفنيد دعواهما، ودورهما ؛إنما يهمنا، هي تلكم الدلالة على حركة ثقافية علمية مزدهرة في اليمن عند إنسانه الأول.
يكون لسان اليمن ( الهمداني ) المتوفى سنة (334ه)، ومؤلفاته الموسوعية إحدى ثمارها وذاكرتها.
 إن من المفيد التذكير بذاكرة الإنسان اليمني الأول؛ لأن مأساة اليمن اليوم، وإنسانها
هي حربها المستدامة، أصلها ركام من ماض متناثرة شظاياه، ماض هو خلفية الحاضر؛ بل (تاريخ الحاضر). مع ازدياد الوعي بالحاضر يزداد الاهتمام بالتاريخ .
ثمة من يعبث بهذا التاريخ بغير قصد، أو بقصد!!... ثمة من يعبث بذاكرة الإنسان اليمني الأخير.

   فما مظاهر هذا العبث بتاريخنا !!  ذاكرتنا !! من يعبث بها، ولماذا؟؟  
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في مقالنا القادم بإذن الله.

* أستاذ الأدب، والحضارة في جامعة عدن والجامعة اللبنانية

مقالات الكاتب