الجد صالح شايع عاشق إذاعة لندن وصانع الوعي السياسي في الوضيع
بين أروقة الزمن وذكريات الطفولة تقف صورة جدي صالح شايع في ذاكرتي بين صمت الليالي وهمسات المذياع تلك...
بين أروقة الزمن وذكريات الطفولة تقف صورة جدي صالح شايع في ذاكرتي بين صمت الليالي وهمسات المذياع تلك النغمة الافتتاحية ودقات ساعة بيغ بن صوت إذاعة لندن "BBC" لم يكن الجد صالح مجرد فرد من عائلتنا بل كان رمزا لجيل كامل من الرجال الذين عاشوا في زمن الشغف بالمعرفة والارتباط العميق بالأحداث العالمية رغم محدودية وسائل الإعلام وقتها
عاش الجد صالح شائع حياة مليئة بالعطاء والإخلاص كان رجلا عاشق للارض بفهم عميق لطبيعتها وتفاصيل مواسم الزراعة كان خبيرا في معرفة أوقات "الذري الحبواب"، تلك اللحظات المهمة التي تترقب فيها الأرض أن تروي عطشها وتستقبل بذورها لتنمو وتزدهر. كان يصحو مبكرا ليبدأ يومه في الأرض يزرعها يعتني بها ويسعى دائما إلى تحقيق أفضل المحاصيل إن معرفته الدقيقة بالأرض وحبه لها جعلاه يحقق نجاحا عظيما في عمله فكان أهل البلدة يقصدونه طلبا للنصيحة والمشورة في كل ما يتعلق بالزراعة
لكن لم يكن الجد صالح شائع مجرد خبير في الأرض بل كان أيضا صاحب دين قوي لم يكن يترك فرضا إلا وأداه في المسجد كان رجلا مخلصا في عباداته يحافظ على الصلاة في أوقاتها ويحث من حوله على الالتزام بأداء الفروض لقد تجسد فيه معنى الإيمان حيث كان يعبر عن صدق الإيمان ليس بالكلمات فقط بل بالأفعال التي كانت تؤثر في الآخرين
كان الجد صالح شائع صادقا في كلامه ومواعيده وهي خصال جعلت منه قدوة للجميع لا يكاد أحد يسمع منه كلمة إلا ويشعر بمصداقيتها وصدقها كان الجميع يثق في كلماته ومواقفه ولهذا كان له مكانة عالية في قلب كل من عرفه
ولد الجد صالح شايع في زمن كان فيه الاستماع للراديو نافذة وحيدة على العالم كان رجلا استثنائيا* بحسه السياسي ووعيه الثقافي رغم أنه لم يدرس في الجامعات إلا أن شغفه بالأخبار وتحليله العميق للأحداث جعله أشبه بمعلق سياسي لا يشق له غبار كان يستمع إلى إذاعة لندن وصوت العرب بشغف لا يضاهى متتبعا أحداث العالم وكأنه يعيش في قلبها
هنا لندن إذاعة الهيئة البريطانية" كانت هذه العبارة المفتاحية تتردد في منزل الجد صالح كل يوم* لم تكن إذاعة لندن بالنسبة له مجرد محطة إذاعية بل كانت أشبه بمدرسة تلقي عليه دروسا يومية في السياسة، والاقتصاد والمجتمع كانت أصوات المذيعين كأيوب صديق، ماجد سرحان، وحسام شبلاق، تحيط بجدران المنزل، وكأنهم جزء من أفراد العائلة
*كان الجد صالح شايع يتابع النشرة الإخبارية باهتمام بالغ ثم يعقب عليها* بتفاصيل وتحليلات دقيقة تذهل من يستمع إليه لم تكن تحليلاته مجرد انطباعات بل كانت رؤية عميقة تستند إلى معرفة واسعة بالتاريخ والسياسة
دقات "بيغ بن" وموسيقى الساكسفون.. رفيقة الذاكرة
لم يكن صوت إذاعة لندن يكتمل إلا بمقطوعة موسيقى الساكسفون الشهيرة ودقات ساعة "بيغ بن" هذه النغمات لم تكن مجرد موسيقى بل كانت ناقوسا يعلن بداية لحظة التنوير بالنسبة للجد صالح كان يستعد لها كما لو أنها موعد مع صديق قديم تلك اللحظات جعلت من الراديو جزءا لا يتجزأ من حياته اليومية
جلسات النقاش في دكان علي صالح العود
ما زالت الجلسات قرب دكان علي صالح العود محفورة في ذاكرتي بعد الصلاةكان الناس يتجمعون للاستماع إلى الجد صالح ويحملون تساؤلاتهم وهمومهم عن الأحداث العالمية وينتظرون منه التحليل والتفسير كان يبحر بهم وهو يفكك الأخبار في نقاشاته بين حرب العراق واجتياح الكويتي إلى أزمات العالم العربي بروح المثقف المدرك لكل التفاصيل
لم يكن الجد صالح مجرد مستمع عادي بل كان محللا بحد ذاته يشبه عبدالباري عطوان أو فايز الدويري في جرأته على قراءة الأحداث وتفسير خلفياتها بأبعاد مختلفة
في قدرته على قراءة الأحداث بذكاء ودقة كطفل صغيركنت أجلس مذهولا بحديثه وأتمنى أن أكبر لأكون مثله أصبح الجد صالح شايع قدوة لكل من عرفه بما غرسه فينا من حب البحث والتحليل كان دائما يقول ان اي خبر ليس نهاية الكلام بل عليك أن تبحث عن أسبابه ونتائجه هذه الكلمات شكلت وعيي الشخصي وجعلتني أبحث عن الحقيقة في كل ما أسمعه أو أقرأه
وداعا لأيام المجد
عندما أُغلقت إذاعة لندن* شعرت كما لو أن جزءا من ذاكرة الجد صالح قد رحل معها كانت تلك اللحظات مؤلمة لكنها عمقت في الإحساس بمدى تأثير تلك الإذاعة في حياته وفي حياتنا جميعا افتقدناها كما افتقدنا الجد صالح رحمه الله وأصبحنا نعيش على ذكريات تلك الأيام التي كان صوت المذيعين يملأها بالحياة
اليوم وأنا أسترجع تلك الذكريات أدرك أن الجد صالح شايع لم يكن مجرد مستمع عادي كان قائدا ثقافيا وروحيا في زمنه ينقل لنا روح المسؤولية تجاه ما يحدث في العالم ترك تاريخ من الوعي والتحليل والحب للمعرفة
رحم الله الجد صالح شايع الذي كان بحق "مذيعا بلا ميكروفون" ومدرسة بلا قاعات وصوتا لن ينسى في ذاكرة الوضيع وأبنائها
وداعا لرمز لن يتكرر وسلاما على روحه الطاهرة وكل من ترك بصمة في حياتنا وأسكنه فسيح جناته.
رمزي الفضلي