خارطة طريق جنوبية
لن نزخرف الكلمات ولن ننمق الحروف وسنتحدث من القلب، فليس لدينا وقت كافٍ للبحث عن المحسنات البديعية.في...
في الحلقة الأولى من سلسلة الحنين إلى الماضي تلقيت عددا من الرسائل معظمها يتهمني بالتطبيل للنظام السابق، فقط لأنني قلت بأن لا وجه للمقارنة بين العقود الثلاثة التي عشناها وبين بشاعة هذا الواقع غير المسبوق قبحا وانهيارا للقيم والمبادئ الوطنية والأخلاقية، ولست هنا بصدد تبيان البين الذي لا تخطئه العين، لكن لمن أراد أن يفهم نحن اليوم نتحدث بإنصاف، وبلغة تصالحية مع الضمير، وعلى ضوء ما نعيشه، وما نشهده من كوارث ومآسي في كافة مناحي الحياة.
سأكتب اليوم عن حقبة الرئيس علي ناصر وأعلم أنني سأتهم بالتطبيل لناصر كما اتهمت في الامس بالتطبيل لصالح، والأمر بالنسبة لي سيان، فمن يطبل يروم مقابلا ، وحنيني للماضي يسقط كل التهم، ذلك أن الماضي لا ينفع إلا لأخذ الدروس فقط، فضلا عن أن من نعيد قراءة تاريخهم لم يعد لديهم مال أو سلطة، كما لا نملك نحن سوى الحنين للماضي.
وكيف لا نندفع للماضي ونتغنى به، وقد كان فيه مجد وعزة لشعب بات يحلم بكسرة خبز يأكلها بعيدا عن أعين الكاميرات، أو كرامة تبقى له بعد الموت، على الأقل سيقول ذات يوم أبناؤه، مات أبانا جوعا لكنه لم يبيع كرامته، وكم صارت الكرامة رخيصة في عهد من لا تهمه الكرامة أكثر مما يهمه المال والسلطان.
وبالعودة للحقبة التي سبقت الوحدة اليمنية، لابد من الوقوف مع الحنين عند مرحلة الثمانينات، تلك المرحلة الفارقة في تاريخ الجنوب، حيث بدأت القيادة السياسية ممثلة بالرئيس علي ناصر من تحرير الجنوب اقتصاديا بجملة من المشاريع في الجانب الصناعي والزراعي والسمكي، والتعليمي والصحي، وأفردت جناحيها على الخارج بانفتاح محدد بثوابت السيادة، ووفق علاقات تبادل المصالح دون تبعية أو ارتهان، وشهدت تلك الفترة عددا من المشاريع التي مولها الأشقاء العرب في الجنوب، ومنها وعلى سبيل المثال لا الحصر ما قدمته دولة الإمارات في عهد الشيخ زايد رحمه الله.
مثلا في العام ١٩٨٥م قدمت الإمارات ٣٧ مليون درهم لتوسيع ميناء عدن، وفي العام ١٩٨١م مولت الإمارات مشروع محطة كهربائية في مديرية المنصورة بطاقة ٦٠ ميجا واط، وقبلها في العام 1980 قدمت الإمارات منحة مالية بمبلغ 67 مليون درهم لبناء وحدات سكنية في محافظة عدن، وفي العام ذاته مولت الإمارات إنشاء ميناء نشطون في المهرة بتكلفة 178 مليون درهم.
وهذه نماذج بسيطة لدولة واحدة استطاع الرئيس ناصر أن يبني معها علاقات وطيدة مبنية على التعاون والإخاء والمصير المشترك، وسنأتي على ما قدمته دول أخرى في حلقة قادمة، وكذلك ما قدمه اليمن الجنوبي للقضايا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، فقط لنقارن بين القيادة التي كانت تقف على قاعدة وطنية صلبة، وبين القيادة التي تقف على رمل الشعارات والأوهام.
نعم يدفعنا الحنين لأزمان خلت، كان التعامل فيها نديا بين دولة ودولة، بين رئيس ورئيس، وليس كما هو حاصل اليوم من ارتهان وتبعية، لا يعلم التابع ماذا يريد منه المتبوع، ولا يحق له حتى أن يسأل، بل أننا وصلنا لزمن يجاهر فيه التابع بتبعيته، ويعاهد المتبوع على الولاء والطاعة، دونما أدنى خجل.
وماذا كانت مكافأة ناصر جراء محاولته التفكير خارج الصندوق المناطقي ضيق الأفق، كانت المكافأة باختصار طرده من الجنوب، ومن ثم طرده من الشمال، والتهجير من الوطن كل العمر، وما يزال في نظر البعض مفجر حرب ١٩٨٦م وكأن الزمن قد توقف عند ذلك التاريخ، دونما احساس بما أعقبه من حروب ومآسي التزم خلالها الرجل الحياد، ولم يتوقف يوما عن المناداة بالحوار والسلام، والتذكير بإن المنتصر في الحروب الأهلية خاسر .
وبعد تسع سنوات من الاقتتال وصل المجتمع الدولي للرؤية التي طرحها ناصر، وأدرك بإن الحل السياسي هو الطريق الأصوب لإنهاء حرب اليمن، وهذا المبعوث الأمريكي لليمن تيم ليندر كينج يؤكد في مقابلة متلفزة امس الأول أن البيت الأبيض يتفق مع روسيا والصين حول الحل السياسي للحالة اليمنية، كذلك السعودية ودول التحالف العربي والجامعة العربية يسعون لإغلاق الملف اليمني سياسيا وعن طريق الحوار، وللأسف هناك من ما يزال يطالب ناصر بتأييد الحرب، وهذا النفر منفصل تماما عن الواقع اليمني، ولم يفهم بعد ارتباطه الوثيق بالوضع في المنطقة العربية والعالم.
وفي العام ١٩٩٤م كان بمقدور ناصر أن يعود من بوابة الانتقام، وينخرط في تلك الحرب الملعونة، ويشارك المنتصر السلطة، لكنه رفض وحذر من عدم معالجة آثار الحرب، وتصويب مسار الوحدة، وفي العام ٢٠١١م جاءته الفرصة الثانية للعودة إلى الكرسي، غير أنه رفض، وما يزال يرفضها، ويتمسك بمبدأ الحوار والمصالحة، قبل التفكير بتقاسم الكراسي والحقائب الوزارية، والهروب من حفرة إلى حفرة أكبر منها.
هذه شذرات من مواقف الرجل الذي ظلمناه كثيرا، وما نزال نتهمه بالهوس بالسلطة، غير مستوعبين حقيقة أنها كانت بيده، وفي متناوله كل الوقت، ودون أن يغريه بريقها ظل متمسكا بحلول جذرية للحروب والأزمات اليمنية، ومن واقع تجاربه كان يرى المآلات التي لم نراها، لكننا نعيش نتائجها اليوم بكل عناد.