باعباد .... وحزن الغيل المضاعف

حين علمت نبأ وفاة الأستاذ محمد احمد باعباد " رحمه الله " شعرت بحزن عميق ، وتدافعت إلى رأسي ، ذكريات كثيرة بعيدة عمرها اكثر من خمسة عقود ونيف  ..    
   تذكرت لقائي الأول به ، في غيل باوزير. ، حيث ولد وعاش ومات . وللغيل مكانة خاصة في نفسي ، فهي بلد أمي ،     وبلاد اخوالي من آل باشطح .. ولي فيها ذكريات من ايام الدراسة في المعهد الديني ، ولي اصدقاء وزملاء دراسة من كل حضرموت ، صاروا رفاق عمر .. ولازالت معالمها مطبوعة في ذهني لم تمحها السنون ..وبعد ان كانت قصصا خرافية من حكايات جدي ، هاانا اخطو في شوارعها ، حواريها، مزارعها ، باغها ، اعوم في حومتها ، هانذا اخطو في ارض طفولة جدي سالم سعيد باشطح ، واستعيد ذكرياته ، عائشا مافقده بهجرته إلى شرق إفريقيا التي لم يعد منها .. وظلت كثير من قصصه التي حكاها لي وانا طفل لصيقة بالغيل حتى قبل ان اراها .
   لم اصدق عندما عرفت خبر وفاة ا . محمد باعباد ، إذ جاء نعيه بعد أيام قليلة من إعلان وفاة الأستاذ محمد سعيد مديحج رحمهما الله واسكنهما فسيح جناته ، فضاعف ذلك حزني  .. وكأن الحزن كتب على الغيل وكل حضرموت في هذاالموت الحاضر ..
    اول من عرفني إلى الأستاذ باعباد ،  زميلي علوي سالم مدهر ، في منتصف ستينيات القرن العشرين الماضي . كنا تلميذين في المعهد الديني بغيل باوزير . اذكر اننا كنا نحضر لإقامة حفل مدرسي . وقد وقع إختيارنا علىقصيدة لتقديمها في ذلك الحفل ، بالإضافة إلى مسرحية ، وطلب منا الأستاذ محمد طه الدقيل ضابط الداخلية ، ومعلمنالمادتي الحساب والإنجليزية ، ان نبحث عن ملحن لها ..
       كانت القصيدة بوابتي للتعرف إلى الأستاذ باعباد ..
  ولما كان زميلي علوي مدهر ابن الغيل ، واهل مكة ادرى بشعابها كما يقال ، فقد اقترح ان نعرض القصيدة على الأستاذ باعباد لأن له اهتمامات بالتلحين ، وكانت المرة الأولى التي اسمع فيها باسمه . وسمح لنا الأستاذ الدقيل بالذهاب، إذ لايمكن لنا الخروج من داخلية المعهد بدون اذن منه  . 
  عندما وصلنا منزله ، ومن حسن الحظ لم يكن يبعد كثيرا عن المعهد ، لم ار الا شابا نحيلا في العشرينيات من العمر .. استقبلنا بترحاب ، وضيفنا تمرا وقهوة كما هي العادة الحضرمية ، اخبرناه بسبب زيارتنا ، وعرضنا عليه كلمات القصيدة ، التي للأسف لا اذكرها الآن ، ولااسم شاعرها .. فرحب على الفور بدون تردد ، ولم يطلب اي اجر ، فالتلحين بالنسبة له كان وظل هواية ، فيما ظلت مهنته الرئيس التدريس .كل ماطلبه ان نترك له الوقت الكافي لكي يتمكن من تلحين القصيدة . 
  بعد عدة ايام عدنا إليه ، وأسمعنااللحن ، ونال إعجابنا ، وذهبنا فرحين به الى أستاذناالدقيل ، وعندما اسمعناه له لم يتحمس له . ربما لم ننقله كما وضعه ملحنه تماما  ، لأننا اعتمدنا على ذاكرتنا السمعية لا على تسجيل . ولم نكن نملك مسجلة ، وفي ذلك الزمن كان عدد من يملكون اجهزة تسجيل قليلا جدا ، وربما ان الاستاذ باعباد نفسه لم يكن يملك واحدا والا لسجل لحنه عليه ، لكن من وجهة نظري الآن ، قد يعود عدم إعجاب الاستاذ الدقيل باللحن ، إلى ذائقته الموسيقية المختلفة التي لعبت دورا كبيرا في قراره . باعباد لحن القصيدة باللون الحضرمي، بينما استاذنا الدقيل كان من السودان و متعودا علىالألحان السودانية والمصرية  ، فصرفنا النظر عن الموضوع . سبب آخر ، وهذا اعتقادي الآن وليس في ذلك الوقت ، وهو ان الاستاذ باعباد نفسه كان حديث عهد بالتلحين ، ولم يكن بذلك التمكن الذي اصبح عليه فيما بعد ... 
   تكررت زياراتنا وزميلي علوي للأستاذ باعباد في منزله ، وكان يستقبلنا بترحاب على الدوام رغم فارق العمر ، إلى انه لم يسألنا عن مصير لحنه ولامرة .. كان من الدماثة والخلق بحيث اعفانا من حرج السؤال ووفر علينا عبء الجواب  !! 
معلم وتربوي ..
شاعر وملحن وعازف ..
كاتب وباحث ِ
ناشط مجتمع مدني ِ.  
  يصف بروف نزار غانم ، الأستاذ باعباد بانه فنان شامل ، ففوق كونه معلما فهو شاعر له الكثير من القصائد المخطوطة التي لم يتسن له طبعها في ديوان اسماه (  حب ولوعة  ) ، لحن من اشعاره ولحن اخرون من كلماته ، امثال : محمد علي عبيد ، وجمعان احمد بمطرف .. له العديد من الاغاني المشهورة التي غناها فنانون معروفون : امثال محفوظ بن بريك  ، عارف فرج سالم ، شادي بن جابر . عمر الهدار ، وعدنان العطاس . عازف كمان ومؤسس وقائد عدة فرق موسيقية ، وباحث له العديد من الكتابات والأبحاث المنشورة في الصحف والمجلات عن الفنانين محمد جمعة خان وعبد الرب إدريس والفرق الموسيقية في حضرموت  ، وشارك في تأسيس العديد من الجمعيات الأهلية ، اوكان عضوا فاعلا في مجالس إدارتها ، اورئيسا لفروع نقابية ... وكل هذا اكسبه القرب من المجتمع وخدمته ، والسمعة الطيبة لدى الناس ، وكان له حضوره باحثا وشاعرا وملحنا وعازفا على آلة الكمان ، وترك بصمته الخاصة به ، وإرثه الذي تركه في الغيل واهل الغيل ، ولهذا كان حزنها اضعافا إذ فقدت المحمدين خلال عشرة ايام .. محمد مديحج ، ومحمد باعباد .. 
  اخر مرة رأيت فيها محمد احمد باعباد ، كان في المركز الثقافي في مبنى المدرسة الوسطى في غيل باوزير ، وبمجرد ان راى احدنا الاخر حتى اندفعنا نحو بعض ، وكأننا نعوض السنوات الأربعين التي لم نلتق خلالها .. ولم اكن اتوقع ان يتذكرني بعد كل ذلك الغياب الطويل ، حين يضمك صديق لاتحس الابنبل المشاعر التي لم تمحها كتل الاحداث والتطورات .. ، لكن فرح اللقاء لن يدوم طويلا فسوف اغادر بعد قليل ، ولن اراه مرة أخرى ، وهانذا اكتب بمداد القلب نعيه الحزين ..

مقالات الكاتب